اخبار لايتالأخبارالمياهحوارات و مقالاتمصر

خالد وصيف:سيارات ومواقف فى حياة عبد الناصر

خبير موارد مائية

لكم فى الخط سيارة … حديث الجار والجارة

هذا البيت هو مطلع قصيدة طريفة داعب بها أمير الشعراء احمد شوقى صديقه الدكتور محجوب ثابت الطبيب الشهير يهنئه على شراء سيارة جديدة موديل اوفرلاند اصبحت حديث البلد كله والجار والجارة، واشار فيها بأسى للحصان مكسى الذى كان يجر العربة القديمة للدكتور محجوب  وتم الاستغناء عنه بعد حضور السيارة الجديدة التى تسير بالوقود بدلا من الفول والبرسيم فيقول له:

أدنيا الخيل يا مكسى… كدنيا الناس غدارة

لقد بدلك الدهر… من الاقبال ادباره

وباع الابلق الحر… بأوفرلاند نعارة

 

هكذا تسللت السيارة فى هدوء الى شوارع القاهرة لتزيح فى طريقها عربات الكارو والخيل والحمير التى كانت هى الوسيلة الاساسية للنقل ايامها. تلك اول خاطرة طرأت على ذهنى وأنا أطالع اخبار السيارة التى كان يستقلها الرئيس جمال عبد الناصر اثناء زياراته لمشروع السد العالى. وهى كما وصفتها وسائل الاعلام شيفروليه موديل 1954 لونها بين درجتى الأخضر “البترولى والكرمبى” وكانت مخصصة لوزير السد العالى المهندس صدقى سليمان. واستخدمها الرئيس جمال عبد الناصر اثناء زياراته التفقدية للمشروع. كما استقلها اثناء الاحتفال بتحويل مجرى النهر، والذى حضره الزعيم الروسى نيكيتا خروشوف وعدد من الزعماء العرب.

لقد تحولت الشيفروليه الخضراء الى جزء من تاريخ السد العالى مما انقذها من مصير طال باقى دفعتها من نفس الموديل فتم تكهينهم من سنوات. وحدها استحقت التجديد والاحتفاء لتستقر كعروس فى متحف النيل باسوان شاهدة على جزء هام من تاريخ مصر

أثارت تلك الشيفروليه الخضراء شهيتى للبحث عن علاقة عبد الناصر بالسيارات التى اكتشفت انها علاقة قديمة ومثيرة فتقصيت ثلاث سيارات أخرى كانت شاهدة على احداث هامة فى تاريخ مصر والامة العربية

أبدأ بالاوستين الصغيرة المراوغة..فى ليلة 21 يوليو عام 1952 كانت القاهرة مستيقظة لاتعرف للنوم سبيلا. ربما كان البعض قلقا من حرارة الصيف ولكن الاغلبية كان قلقها من الازمة السياسية العاصفة التى تمر بالبلاد. ثلاث وزارات يتم تشكيلها وتستقيل فى غضون اربعة ايام. وقناعة وصل اليها ضباط شباب ان النظام كله يجب تغييره بعد ان فقد صلاحيته. فى تلك الليلة كانت هناك سيارة صغيرة ماركة “اوستين 8” بمحركها 4 سلندر وبابيها الاثنين تسير بحذر فى شوارع القاهرة، تقترب من نقاط محددة وتبطئ من سرعتها ثم تنطلق فى طريقها.

على مقعد القيادة كان يجلس شابان فى اوائل الثلاثينيات، البكباشى جمال عبد الناصر وبجواره البكباشى عبد الحكيم عامر يلقيان نظرة اخيرة على المواقع التى سيتم تحريك قوات الجيش لها فى اليوم التالى. ماذا لو استوقفت السيارة احدى اللجان المنتشرة فى شوارع القاهرة. وماذا لو اثار تحرك ضابطى جيش بملابس مدنية ريبة اجهزة الملك التى كان لديها شكوكا واسعة وادلة شحيحة منعتها من اتخاذ ضربة استباقية لتنظيم الضباط الاحرار. اجتازت الاوستين البيضاء اختبارا صعبا ليكتب تاريخ جديد لمصر فى صبيحة اليوم التالى بالبيان الذى القاه اليوزباشى انور السادات من مبنى الاذاعة المصرية لتبدأ مصر مرحلة جديدة فى حياتها شاركت فى تحديدها تلك الاوستين الصغيرة

السيارة الثانية كاديلاك سوداء موديل 1955 استقلها الرئيس عبد الناصر فى سوريا. وقتها كانت سوريا تمر بازمة سياسية عنيفة كادت ان تودى باركان الدولة نفسها. مما دعا الرئيس شكرى القوتلى ان يأتى بنفسه للقاهرة لاقناع عبد الناصر باعلان الوحدة بين البلدين. لم يكن عبد الناصر مستريحا لتلك الوحدة المفاجئة وكان يرى تأجيلها بضع سنوات حتى تتهيأ الاجواء لنجاحها لكن تحت الحاح القوتلى وضغوط قيادات الجيش السورى تم قبول الوحدة واصبح جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، كما تحول لقب القوتلى من رئيس الجمهورية السورية الى لقب جديد هو “المواطن الاول” فى الجمهورية العربية المتحدة.

وفى 24 فبراير عام 1958 توجه عبد الناصر لزيارة الاقليم الشمالى وهبطت طائرته فى مطار دمشق ليستقل السيارة الكاديلاك المكشوفة وبجواره القوتلى.  تشق السيارة طريقها بصعوبة وسط امواج بشرية اصطفت على الجانبين. تقترب الجماهير اكثر فأكثر من السيارة حتى تلامست مع هيكلها المعدنى، وفجأة وبدون ترتيب امتدت الايدى لترفع السيارة الكاديلاك عن الارض وتحملها الجماهير على الاكتاف. وربما كانت تلك اللحظة هى الاكثر سعادة داخل مصانع كاديلاك الامريكية بعدما حققت دعاية مجانية تساوى ملايين الدولارات، بالرغم من العداوة الشديدة التى كانت تكنها الادارة الامريكية لعبد الناصر فى تلك الفترة

من 1958 الى 1967 جرت فى النهر احداث كثيرة، انتصارات مدوية لا ينكرها اى منصف تحققت فى حرب السويس وتأميم القناة والبدء فى الخطة الخمسية الاولى والشروع فى بناء السد العالى. الخمسينيات شهدت اقصى نقطة فى منحنى ثورة يوليو والستينيات شهدت نقطة انقلاب بهزيمة قاسية كان تأثيرها على معنويات الشعب المصرى أشدد مرارة من تأثيرها المادى. الشيئ الذى ظل على ثباته وازداد الاعتماد عليه هو السيارات الكاديلاك التى اصبحت الموديل المفضل فى القصور الرئاسية فى المنطقة العربية

بعد الهزيمة بثلاثة شهور قررت جامعة الدول العربية عقد اجتماع لها فى مدينة الخرطوم بالسودان. وهو المؤتمر الذى اشتهر باسم مؤتمر اللائات الثلاثة: لا سلام مع اسرئيل ولا اعتراف بها ولا مفاوضات معها. فى 29 اغسطس عام 1967 هبط عبد الناصر فى مطار الخرطوم ليجد فى استقباله الرئيس اسماعيل الازهرى ورئيس الوزراء محمد محجوب، وبعد اجراء مراسم الاستقبال طلبا منه الانتظار لحين قدوم باقى طائرات الرؤساء الذين اقتربت طائراتهم من مدرج الهبوط، وحتى يذهبوا سويا لمقر الاقامه.

كانت المسؤولون السودانيون متوجسين من طريقة مقابلة جماهير السودان لعبد الناصر بعد الهزيمة. كانوا يخشون ان تترجم الجماهير غضبها بلقاء فاتر او هتافات مسيئة فكان اقتراحهم بالتحرك الجماعى للرؤساء.

رفض عبد الناصر الانتظار وطلب ان يذهب وحده. على ان يظل الرئيس الازهرى ومعه رئيس الوزراء فى المطار لاستكمال استقبال باقى الضيوف طبقا للمراسم المعروفة. وامام اصراره تم ايفاد احد الوزراء ليرافق عبد الناصر فى سيارة كاديلاك سوداء مكشوفة وبقيا هما فى المطار. انطلقت السيارة فى شوارع الخرطوم لتجد امامها طوفان بشرى يهتف لعبد الناصر ويرفع صوره وحده دونا عن باقى الرؤساء. والمثير ان الجماهير انصرفت تهرول خلف السيارة الكاديلاك وتركت باقى الرؤساء يخرجون من المطار ليجدوا الشوارع خالية من المستقبلين.

كان استقبالا هائلا ساعد فى رفع روح ناصر المعنوية بعد هزيمة يونيو، كما ساهم فى تأكيد وجهة النظر المصرية فى ادارة الصراع العربى الاسرائيلى فى مقابل سياسات اخرى لم تستطع ان تخفى ارتياحها ( او شماتتها) لهزيمة مصر لتتخلص من صداع السياسة الناصرية والقومية العربية. وتصدرت صور السيارة الكاديلاك السوداء كل صحف اوروبا وامريكا حتى ان مجلة نيوزويك الامريكية كتبت تحت صورة الغلاف ما معناه ” انها اول مرة  يقابل فيها المهزوم باكاليل الغار من امته.

 

سيارة ومسار ومسير ومصير..كلمات تحمل نفس المعنى فى القاهرة ودمشق والخرطوم. نصف القوس الذى يصل ما بين جبال طوروس شمالا الى العمق الافريقى عند منابع النيل جنوبا. كلها مترادفات تنبع من جذر لغوى واحد، هكذا تقول معاجم اللغة وهكذا تؤكد شواهد التاريخ ومعالم الجغرافيا

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى