الأخباربحوث ومنظماتحوارات و مقالات

محمد بلال يكتب:من يلتقط الخيط الصيني ؟!

مركز بحوث الصحراء

في زيارة للمدينة المُحرمة في بكين لاحظت أن أمام القاعة الرئيسية التي كان يحكم منها الإمبراطور الصيني سلحفاة نحاسية وكركي نحاسي ، وعلمت أن ذلك يرمز إلى الحكم الإمبراطوري المستقر والطويل الأمد..

 التاريخ يعلمنا أن الشعب الصيني منذ قديم الأزل دائماً ما يسير نحو العظمة بخطي ثابته وبأنفاس طويلة .. بنفس الطريقة بدأ الصينيون في القرن التاسع عشر في النظر إلي الغرب حيث بدأت خطوط التجارة الصينية في الظهور فيما عرف بعد ذلك بـ “طريق الحرير” حيث بدأ العنكبوت الصيني في نسج شبكاته التجارية علي نصف الكرة الأرضية الشرقي في دول آسيا واستراليا وإفريقيا وشرق أوروبا.

 ويستمر المارد الصيني في العمل في أعقاب الثورة الصناعية والثقافية لتظهر بعدها الصين القوية بإقتصادها وتطورها وعظمة شعبها وبعدها بسنوات يتولي الرئيس “شى جى بينج” مقاليد الحكم ليقفز التنين الصيني بشكل أقوي وأسرع ويتربع علي عرش الإقتصادات العالمية ليعلن بعدها الرئيس الصيني مبادرته الأشهر علي الإطلاق “الحزام والطريق : حزام واحد .. طريق واحد” لتغطي هذه المبادرة أكثر من (68) دولة بما في ذلك 65٪ من سكان العالم ، و يقدر أنّها ستدرج ضمن أكبر مشاريع البنية التحتية والاستثمار في التاريخ ..

الصين دولة عظمي إقتصادياً ولكن الإقتصاد وحده لا يكفي للبقاء قوياً دون علم ودون استثمار في البحث العلمي .. الصين وضعت خطة قوية للإعتماد علي العقل البشري والعلم الحديث لترسيخ دعائم الإقتصاد وتطوير المستقبل بالعلم والمعرفه ..

 إتخذت الصين تدابير قوية وعظيمة ليس فقط إعتماداً علي العقل الصيني المبدع بل واستقطاب وجذب العقول المستنيرة من كافة أنحاء العالم للدراسة في الصين والعمل في مجال البحوث العلمية ليحدث ذلك طفره في العلوم الحديثه حيث فتحت الصين جامعاتها ومراكزها البحثية مع توفير كل المستلزمات الممكنة ووضعت خطة طموحة وعبقرية للوصول إلي نصف مليون منحة دراسية وبحثية بحلول عام 2020 ..

 تطابق ذلك مع المبادرة الصينية الشهيرة “الحزام والطريق” حيث بدأ الصينيون بالوصول لكافة الدول والشعوب علي جانبي “الحزام” البري الذي يخترق آسيا من الشرق إلي الغرب وصولاً إلي أوروبا و”الطريق” البحري التجاري الأشهر عالمياً قادماً من الصين إلي دول شرق آسيا ثم دول المثلث الهندي وباكستان والبحر العربي ثم دول الخليج العربي ثم مصر مروراً بدول شرق إفريقيا مثل كينيا وأثيوبيا والسودان

. تقع مصر في أهم محاور هذا الطريق وأعظمها علي الإطلاق فمصر التي حباها الله موقعاً فريداً وحيداً تمتلك مضيقاً استراتيجياً بين البحرين الأحمر والأبيض وهي الدولة الوحيدة التي تمتلك هذا العدد الكبير من السكان في قلب الصحراء وعلي نهر ضيق وتحتاج لإجتياح الصحراء بالزراعة والتعمير وتواجه أرضها الخصبة مشكلات قلة الخصوبة وانخفاض جودة محاصيلها وثرواتها النباتية والحيوانية والبيئية وأيضاً تواجه تراجعاً في دعم البحث العلمي نتيجة الظروف الإقتصادية الصعبه فلا سبيل أمامها إلا التعاون وإيفاد أبنائها وكوادرها لكي يحصلون علي بيئة خصبة للعلوم بما توفره الصين من إمكانات علمية ومعنوية وبقدر مادي كافي لتحقيق الفرصة للتعلم ..

كل هذه العوامل وغيرها جعلت مصر هدفاً إستراتيجياً وكنزاً ثميناً يطمح الصينيون لإضافته لخريطتهم التنموية العظمي ولتحقيق حلم إحياء طريق التنمية – طريق الحرير قديماً – المتمثل في مبادرة الحزام والطريق

. التنين الصيني يعمل علي وضع قدم التنمية في قلب إفريقيا كمناطق ناشئة واعدة ..

لنأخذ مثالاً سريعاً .. كينيا .. البلد الإفريقي الذي لا تكاد تسمع عنه كثيراً في يومك المعتاد سوي ربما في كرة القدم أو علي عبوات الشاي الذي يشربه المصريون يومياً مرات ومرات .. كينيا بلد خصب جداً يعتمد مواطنيه علي الزراعة .. ويزرعون الذرة والكاسافا والموز والأرز والقمح على المرتفعات ،ولقد ازدهرت بكينيا حاصلات نقدية مثل البن والشاي وقصب السكر والسيسل والقطن، ويشكل البُن رُبع صادراتها ..

الصين أيضاً تزرع الشاي وهو مشهور عالمياً بالشاي الأخضر .. إلتقط الكينيون الخيط الصيني مبكراً فقامت الحكومات الكينية بالتعاقد مع الصينيين لإنشاء مصانع الشاي في كينيا بدلاً من تصديره خام بأقل قيمة .. البُن كذلك .. أقامت الصين تجمعات تنموية وقلاع صناعية في كينيا يعمل بها الشباب والفتيات ..

 أقام الصينيون فروعاً لجامعاتهم ومراكزهم البحثية وكياناتهم العلمية في قلب كينيا وبالتعاون مع جامعاتها ومراكزها البحثيه في إطار إتفاقيات مشتركة ومشروعات ونماذج شراكة عملت طوال السنوات الماضية علي ضخ التنمية في شرايين كينيا لتنهض كينيا وتصبح من الدول الإفريقية الصاعدة والقادمة في طريق التقدم والإزدهار.

الصين شريك خفيف لا يسألك عن حقوق الإنسان في بلادك ولا يصنع لك الأزمات السياسية ولا يدفعك لشراء سلاحه وتجد نفسك مديناً له بالمليارات فيتدخل في شئونك ويفرض عليك سياسته .. السياسة الصينية قائمة علي العمل والشراكة من أجل التنمية ولا يفرق بين لونك وانتماءك أو حتي دياناتك وعقائدك هو فقط يريد أن يستمد قوته من قوتك ويتبع سياسة المصالح المتبادلة ولن تجد مسئول صيني في يوم من الأيام يعترض علي أداءك الحكومي أو يقوم بتقييم سياستك في الإصلاح أو يفرض عليك عقوبات أو يسرق مالك أو ينهب مواردك ..

الصيني هو زائر خفيف يشاركك بقوة في خطط التنمية ويفتح لك أبواب الإستثمار والخير طالما وجد فيك الجديه والإرادة في العمل ويرحل ببساطة في اللحظة التي تتوقف أنت فيها عن العمل فهو شريك بلا مشكلات.

في مصر .. نجد أنفسنا متأخرين جداً في إلتقاط هذا الخيط الصيني فنسمع حديثاً عن بعض الإتفاقيات التنموية علي استحياء حيث يقوم الصينيون ببناء كوبري هنا أو نفق هناك وربما تطور الموضوع لإنشاء مدن صناعية في حين تجد المقابل المصري هو قطعة أرض علي هامش المدن أو ربما منطقة لوجستية في محور قناة السويس وهذا قليل للغاية بالمقارنه بالمستوي الذي يخطط الجانب الصيني للتعامل به مع مصر ..

علي المستوي العلمي مثلاً يتعجب الصينيون كيف لمصر ذات المائة مليون نسمه أن يكون تمثيلها العلمي ممثلاً في التعاون وإيفاد البعثات العلمية للجامعات الصينية بهذا القدر الرمزي الهزيل الذي وصل في أكبر قيمه له إلي 500 طالب مصري من مجموع النصف مليون طالب بالجامعات الصينية ومراكزها البحثية بالمقارنه بدول ربما ليست كقيمة مصر علي خريطة مبادرة الحزام والطريق مثل باكستان وكينيا ..

أنت لديك الإمكانيات التي تساعدك أن تكون شريكاً قوياً ولديك الكوادر لأن تشارك بعقول مستنيرة .. نسبة المصريين في الجامعات الصينية ضئيلة جداً .. في جامعتي التي أدرس الدكتوراه بها حالياً 7 مصريين فقط في الجامعة التي تشتمل علي حوالي 114 معهد بحثي من أكبر معاهد العالم البحثية العلمية !!

 في حين يصل أعداد المشاركين من باكستان ودول شبه القارة الهندية ما يزيد عن 300 طالب ماجستير ودكتوراه ومن كينيا وحدها ودول الشرق الإفريقي حوالي 100 طالب في جامعتي هذا العام فقط !! ..

لك أن تتخيل الموقف عندما يعود هؤلاء الآلاف ممن أتيحت لهم الفرصة للإحتكاك بالتطور العلمي الهائل في الصين إلي بلادهم مع قليل من الدعم وكثير من الإهتمام سيصبح هؤلاء هم وقود التنمية والتقدم في تلك البلاد وكنت دائماً ما أتساءل لماذا هذا العدد الضئيل؟

 اتضح فيما بعد أن الجامعات الصينية تُفضل العمل بنظام الشراكة العلمية من خلال الإتفاقيات والمشروعات المشتركة .. المراكز والمعاهد المصرية تعج بالباحثين في كافة المجالات .. المعامل قديمة والعلوم تتطور كل دقيقة والعالم السريع بتطوره لن ينتظرك كي تأتي متأخراً بعد سنوات ولن ينتظرك الصينيون بالورود بعد فشلك لسنوات طويلة في إيجاد شراكات حقيقية ..

يقول المثل الصيني القديم “حتى الثعلب النائم يحصي الدجاج في أحلامهفحتي لو أصابنا النوم قليلا يجب علينا ألا نفقد أهدفنا ومصالحنا .. الموضوع جاد جداً والخيط الصيني في كل المجالات مازال يلوح في الهواء ينتظر من يلتقطه.

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى