الأخبارحوارات و مقالات

د خالد وصيف يكتب: “أشرف” يتحدي الصمت

خبير موارد مائية

اذا ذهبت يوما لزيارة محافظة المنيا وكنت قريبا من مركز ملوى، اخطف رجلك مسافة عشرين كيلومتر الى حيث ترسو قرية صغيرة على نهر النيل اسمها جزيرة الشيخ تمى. الجزيرة تضم ارضا زراعية تقترب من الالفين فدان وتعتمد فى الرى على محطة طلمبات أنشأتها وتديرها مصلحة الميكانيكا والكهرباء. المحطة تضم اربع وحدات رفع تنقل المياه من المنسوب المنخفض لنهر النيل الى المنسوب المرتفع للارض الزراعية. وتعتمد فى تشغيلها على طاقم من العمال والفنيين ولايزيد عددهم على ثمانية. اتحدث هنا عن واحد منهم اسمه اشرف عبد الرشيد.

أشرف شاب يحمل كل الجينات الوراثية لاجداده الفراعنة الذين بنوا حضارة عريقة فى منطقة المنيا منذ آلاف السنين. ملامح وجهه تشعر انك التقيتها من قبل فى المتحف المصرى، او رأيتها على جدران المقابر الاثرية بمنطقة بنى حسن. رشيق الوزن متوسط الطول مثل عود قصب احمر، اسمر البشرة بلون طمى النيل، يبلغ من العمر اربعين عاما قضى اكثر من نصفها عاملا للخدمات المعاونة بالمحطة. حيث تم تعيينه بها عام 1998 ضمن نسبة الخمسة بالمائة لذوى الاحتياجات الخاصة.

اشرف هو اصغر اخوته الستة، وهو الوحيد الذى ولد فاقدا القدرة على السمع او الكلام، واحد من شريحة عريضة عددها لايقل عن خمسة ملايين معاق فى مصر. فهو يعتمد فى التعامل مع من حوله على لغة الاشارة. هو لم يدرسها ولم يلتحق بمدرسة من الاساس، لكن الحاجة اجبرته على التعرف عليها واجبرت ايضا زملائه ورؤسائه على تعلمها حتى يستطيعوا التعامل معه. حينما التحق اشرف بالعمل كان هناك حاجز نفسى بينه وبين طاقم الفنيين بالمحطة لانقطاع التواصل بينهم، ما هى الا ايام قليلة الا وسقط هذا الحاجز بعدما لمسو من تصرفاته التى تدل على الذكاء والنشاط والامانة، كما شدهم فيه ابتسامة واسعة لا تغيب عن وجهه. وحفظوا اشارة شهيرة له حينما يواجه مشكلة او موقف صعب، فيرفع يده اليمنى واصابعها مفرودة الى السماء، هو يقول يارب، يقولها بقلبه قبل ان يشير بها بيده

مهام وظيفة اشرف كعامل تقتصر على ازالة الحشائش التى تنمو قريبا من المحطة وتعيق مجرى المياه لها، ورفع الاعشاب المتجمعة عند حوض المص، وتنظيف المحطة من الداخل والخارج، وتتضمن ايضا حمل معدات الفك والتركيب التى يستخدمها الفنيون لاجراء صيانة للطلمبات. وهو يحتفظ بمفاتيح المحطة، يغلقها فى المساء ويتأكد من اغلاق الكوالين، ثم يفتحها كل صباح

أشرف لايعرف القراءة والكتابة لكنه يتمتع بذكاء فطرى لافت جعله يتقن رسم اسمه فى الكشوف. ومن طول وتكرار المتابعة لعمليات الصيانة حفظت عيون اشرف خطوات التنفيذ وساعده ذكائه وشغفه بالتعلم فى ان يمد يده ليشارك فى عملية الصيانة. بمرور الوقت اصبح اشرف خبيرا فى صيانة الطلمبات. يقوم بعمليات الفك والتركيب، بل وينبه الى اقتراب موعد اجراء العمرة الذى يتكرر كل عشرة آلآف ساعة تشغيل.

تحولت العلاقة بين اشرف والطلمبة لحالة عشق خاصة. يخاف عليها من التعرض للعطل ويسعد بها وهى تعمل بكامل طاقتها بالرغم من انه غير قادر على سماع صوت محركاتها وهى تهدر فى صخب. اصبح خبيرا فى تغيير رمان البلى والكراسى النحاسية وقياس خلوص الريشة. وتعمقت معارفه لتصل لمرحلة تجميع عمود الطلمبة نفسه، وهى مرحلة دقيقة بشهادة خبراء الميكانيكا والكهرباء.

فى احد المرات فى منتصف النهار، وبينما فريق الصيانة متجمع بجوار الطلمبة لاصلاح عطل اصاب الطلمبة، اذ بأحد المفاتيح يسقط فى مياه النهر، المفتاح لاقيمة كبيرة له لكن بدونه ستتعطل عملية الفك والتركيب حتى صباح اليوم التالى، حينما تفتح محلات بيع الادوات فى مدينة ملوى. وبينما كان فريق الصيانة واجمين لايدرون ماذا يفعلون قام اشرف بخلع ملابسه ثم قفز فى المياه وغطس ليخرج بعدها بنصف دقيقة وعلى وجهه ابتسامته الشهيرة وفى يده المفتاح، يشير به فى الهواء وسط صيحات الاعجاب من زملائه. ليرفع أشرف يده وبها المفتاح الى السماء. تلك كانت اشارته التى يقول بها دائما يارب.

امتدت علاقة اشرف خارج حدود المحطة التى يعمل بها، خصوصا مع جيران المحطة من المزارعين. وارتفعت شعبيته بينهم حينما انزلقت قدم فتاة صغيرة  وهى تسير على حافة الارض الزراعية، لتسقط فى حوض المص الذى يتجاوز عمقه ستة امتار، ومع تجمهر الاهالى على صراخ الفتاة لطلب النجدة، القى اشرف بنفسه فى الحوض ونجح فى انقاذها من الغرق، ويسحبها على حافة الحوض وهو يرفع علامته الشهيرة الى السماء

اشرف يتلقى مرتبا متواضعا مثل كل من هم فى نفس درجته الوظيفية، وبجانب الوظيفة يقوم بزراعة قطعة صغيرة من الارض ورثها عن والده، يعمل فى الارض ايام الاجازات وفى الفترة ما بين العصر والمغرب.بعد صلاة المغرب يعود لمنزله يتناول الغداء مع زوجته واولاده الخمسة ويستريح لعدة ساعات ثم يخرج ليمارس عملا آخر بالاضافة الى الوظيفة والزراعة، هو يعمل فى مخبز بالقرية لنصف وردية من منتصف الليل حتى الرابعة فجرا. يعود بعدها لبيته ليتجهز للذهاب الى المحطة، وفى جيبه مفاتيح الابواب ليبدأ دورة جديدة تتكرر كل يوم. لاوقت لهواية خاصة ولافرصة لتشجيع لعبة او مشاهدة فيلم او مسلسل. أشرف يعيش فى صمت مطبق لكن حياته تضج بالنشاط والحيوية

أشرف نموذج للمصرى الاصيل الذى يعمل كثيرا ولا يطلب الا القليل. لم يزر القاهرة ولا مرة فى حياته، ولا يعرف فى مدينة المنيا سوى مقر الادارة المركزية للمحطات، حيث تسلم عمله منذ اكثر من عشرين عاما. قانع بحياته فى جزيرة الشيخ تمى ويسعى على رزقه، سعيد باولاده الخمسة وممتن لانهم يتمتعوا بحواسهم كاملة ولم يرث اى منهم اعاقته. وكلما شعر باحتياج او واجه ازمة او هبت عليه نسمة فرح، يرفع يده  الى السماء ليتكلم بلغة الاشارة يارب، لغة ربما لايعرف مفرداتها الكثير لكن المؤكد ان رب السماوات والارض عارف بها ومدرك لصدقها

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى