الأخبارالاقتصادالانتاجبحوث ومنظمات

د عبد السلام منشاوي يكتب: القمح الطريق الأصلي لتحقيق الأمن الغذائي المصري

رئيس بحوث ومربي قمح بمحطة بحوث سخا- قسم بحوث القمح- معهد بحوث المحاصيل الحقلية – مركز البحوث الزراعية

تعتبر مشكلة الغذاء مشكلة اقتصادية في المقام الأول، لأنها تعبر عن شكل من أشكال العلاقة بين العرض والطلب، أو بين الإنتاج والاستهلاك، إلا أن لها أبعاداً متعددة، منها  البعد الأمني. ونظراً لما لهذا البعد من أهمية كبيرة فقد شاع مصطلح (الأمن الغذائي) بسبب الارتباط الوثيق بين كل من الغذاء والأمن.

الغذاء هو أحد حاجات الإنسان الضرورية التي تتمثل في المأكل والملبس والمسكن، إلا أن الغذاء يعتبر أهمها. فالإنسان لا يستطيع الاستغناء عنها والصبر على الجوع، لقد عاش الإنسان الأول عارياً دون ملبس ودون مأوى، ولازالت أقوام كثيرة تعيش اليوم في مجاهل إفريقيا تسير عارية أو شبه عارية، لكنها رغم ذلك لا تستطيع الحياة بلا طعام، فالطعام إذن هو أول مقومات الحياة. فإذا لم يتوفر بشكل يستطيع الناس الحصول عليه هاج الشعب وثار مما يؤدي إلى قيام الاضطرابات والفوضى، واختلال لأمور الأمن في البلاد، ولذلك فإن توفير الطعام للسواد الأعظم من الشعب يساعد على استتباب الأمن في المجتمع.

الأمن الغذائي اصطلاح طرحته المنظمات والهيئات الدولية و تبنته الحكومات ليأتي مترافقاً مع مصطلحات أخرى، كالأمن الوطني، و الأمن الإستراتيجي، والأمن الاجتماعي، وغيرها من المصطلحات التي أريد من طرحها التنبيه إلى ضرورة مواجهة أخطار تهدد المجتمع من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة للتخفيف من آثارها و إزالة جميع الأضرار الناجمة عنها.

لفت القرآن الكريم أنظار البشرية إلى أهمية الغذاء في حياة الأمم والشعوب. وقد ظهر ذلك المعنى من خلال سورة قريش، حيث أمتن الله عز وجل على قريش بما أفاء عليهم من نعمة الأمن الغذائي {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ } ونعمة الأمن والاستقرار السياسي { وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}. وقد عمل الإسلام على وضع الأسس النظرية لتحقيق الأمن الغذائي من خلال حث النبي صلى عليه وسلم على الزراعة وإحياء الموات من الأرض بالزراعة. وذلك كما في قول الرسول” إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل” رواه أحمد عن أنس بن مالك. فالأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي من الغذاء شرط لازم لحفظ كرامة الأمة وصيانة وحدتها وحماية ديارها ولدرء تحكم الأعداء في مقدراتها وتدخلهم في قراراتها وسياساتها.

تعتبر محاصيل الحبوب هي المكون الأساسي للأمن الغذائي بصفة عامة وهي صمام الأمان له. وقد  ورد ذكر الحب في قول الله تبارك وتعالى في سورة الرحمن“والْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ”. ومن أهم محاصيل  الحبوب: ( القمح، الأرز، الذرة، الشعير، الدخن، الشوفان).

يعتبر القمح أهم محاصيل الحبوب، ولا يختلف اثنان على أن القمح هو العمود الفقري لحياة شعوب الأرض، فهو المصدر الرئيسي لصنع الخبز في كل أنحاء الدنيا، لذا فقد شغل الإنسان قديما وحديثا بأمر زراعته بإجادتها والتوسع فيها، والقمح غذاء جيد للإنسان يجدد الدماء في الجسم ويعطيه ما يحتاجه من سعرات حرارية وفيتامينات ومعادن. ومن أصدق ما وصفت به حبة القمح بقشرتها أنها “البيضة النباتية” وذلك لأنها تحتوي على أكثر العناصر الفعالة والضرورية للغذاء وبناء الجسم. وقد ذُكرَ القمح في أكثر من موضع في كتاب الله منها “فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلّا قَلِيلًا مِمَّا  تَأْكُلُونَ ” ﴿٤٧يوسف﴾

يشمل القمح أكبر مساحة منزرعة بالنسبة لمحاصيل الحبوب الأخرى على مستوى العالم حيث يزرع منه حوالي 220 مليون هكتار موزعة على كثير من مناطق إنتاجه في العالم تنتج هذه المساحة حوالي 750 مليون طن. كما أنه يمثل الغذاء الرئيسي للإنسان في معظم الدول لأن حبوب القمح تحتوى على الجلوتين الذي يجعل دقيق القمح يتميز عن دقيق الحبوب الأخرى لصناعة خبز ممتاز يرغبه الإنسان.

بلغت المساحة المزروعة قمح بمصر عام 2017/2018 حوالي 3.1  ملیون فدان، أنتجت 8.35 مليون طن من القمح، وبالتالي لا تزال هناك فجوة بين الإنتاج والاستهلاك. و لا تزال قضية تحقيق الأمن الغذائي من القمح تمثل أولوية خاصة واهتمام من الجميع حكومة ومستهلكين وزراعا لضمان وصول رغيف الخبز لكل مواطن على أرض مصر دون أن يتأثر بتقلبات الأسعار العالمية أو يشعر بالإخلال في حاجاته اليومية من القمح ومنتجاته. ولمواجهة مشكلة الغذاء في ظل محدودية الأرض الزراعية والموارد المائية مع التزايد السريع في النمو السكاني فلا بد للدولة من العمل على  الاهتمام بتنمية البحث العلمي والموارد الطبيعية وزيادة التعاون والتنسيق بين البرامج البحثية، بهدف زيادة الناتج المحلي من الغذاء، لتقليل الفجوة الغذائية بين الإنتاج والاستهلاك. وفي هذا الصدد ومن خلال الموارد الزراعية المتاحة فإن  على الدولة أن تعمل علي إتباع إستراتيجية متوازنة ذات أهداف متعددة وبصوره ديناميكية تجمع بين الاعتبارات الاقتصادية والسياسية معاً.

 وتعتمد هذه الإستراتيجية علي عدة محاور هي:

المحور الأول وهو التنمية الرأسية: حيث يعتمد  هذا المحور على اتجاهين أساسيين هما:

أ- الاتجاه الأول: الاستمرار في استنباط  الأصناف عالية الإنتاج ورفع كفاءة برامج التربية وتطويرها بما يضمن إنتاج  أصناف أكثر تميزا وأعلى إنتاجاً وذات صفات جودة عالية ومقاومة للأمراض.

ب- الاتجاه الثاني: هو تقليل الفجوة بين المتوسط العام للإنتاج من وحدة المساحة وقدرة الأصناف الإنتاجية وذلك برفع الإنتاجية الفعلية إلى القدرة الإنتاجية الوراثية للأصناف والتي تتعدي 28 أردب للفدان وذلك بإتباع حزمة التوصيات الفنية الخاصة بزراعة القمح  والصادرة عن قسم بحوث القمح ممثلا لوزارة الزراعة حتى تنتج أو تعطي الأصناف إنتاجها العالي المتميز فعلا.

المحور الثاني وهو التنمية الأفقية: حيث يرتكز هذا المحور على اتجاهات متعدد تساهم في زيادة الناتج القومي من القمح وبالتالي يعمل على تضيق الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك والقرب أو الوصول للاكتفاء الذاتي ومن أهم هذه الاتجاهات ما يلي:

أ-  الاتجاه الأول: هو التوسع في زراعة القمح في الأراضي الصحراوية من خلال خطة الدولة لزراعة المليون ونصف فدان  والحاصل من خلال المشاريع القومية الكبيرة التي تدعمها الدولة كمشروع غرب غرب المنيا والعوينات وتوشكى والوادي الجديد ويضاف إلى ما سبق الساحل الشمالي مع الري التكميلي لأن مصدر مياه المطر قليلة حتى تكمل النباتات دورة حياتها وتعطي محصولا مقبولا.

الاتجاه الثاني: هو زراعة أصناف قمح مبكرة النضج يجري استنباطها حاليا بحيث يمكن زراعة القطن بعدها  وبالتالي يحصل المزارع على محصولين مجزئين 100% قمح و100% قطن.

الاتجاه الثالث: هو زراعة أصناف قمح مبكرة النضج بعد حصاد محصول بنجر السكر بالعروات المبكرة وبعد زراعات البطاطس وبعد كسر القصب وفي المزارع السمكية بعد صيدها، وهي مناسبة جدا في مثل هذه الحالات وتعطي إنتاجية مقبولة.

الاتجاه الرابع : زراعة برسيم فحل أو برسيم مسقاوي وأخذ منه حشتين للمساهمة في حل مشكلة العلف ثم زراعة أصناف قمح مبكرة النضج والتي تناسب الزراعة المتأخرة.

المحور الثالث : ترشيد الاستهلاك وتقليل الفقد: ويكون ذلك في جميع مراحل التداول والاستهلاك وجودة تصنيع رغيف الخبز. وحيث أن متوسط استهلاك الفرد هو 200 كيلو من القمح وهو معدل استهلاك عالي جدا والمتوسط العالمي هو  80 كيلو للفرد وذلك سببه تسرب القح في استخدامات غير أدامية إما علفا أو هدرا بسبب من أسباب الفقد المختلفة، فإذا نجحنا في النزول لمتوسط استهلاك الفرد إلى  ما يقرب من ضعف المتوسط العالمي 150 كيلو للفرد فإن ذلك سيوفر قدرا كبيرا من القح يقرب من 5 مليون طن (50 كيلو ×100 مليون نسمه).

المحور الرابع وهو التسعير العادل: يجب أن يكون سعر القمح  يزيد عن سعر الأعلاف وتتساوي الأسعار  المحلية مع الأسعار العالمية حتى يكون السعر مجزيا وعادلا للمزارع ولتشجيعه على زراعة القمح ومنع تسربه للأعلاف. وفي ظل التغيرات المحلية والعالمية فانه يوجد ثلاث بدائل بالنسبة لمحصول القمح وكل دولة تتبع ما يناسبها ويخدم الصالح القومي لها و   وهي:

البديل الأول: وهو تقديم الدعم لكل من منتجي ومستهلكي القمح ومثل هذه السياسة تساعد على الاحتفاظ بإنتاجه عند مستويات عالية إلا أن الاستهلاك يظل مرتفعا نظرا لانخفاض أسعار الخبز.

البديل الثاني: إلغاء الدعم على الإنتاج والاحتفاظ بدعم المستهلك ومثل هذه السياسة تؤدي إلى تقليل الإنتاج مع ثبات الاستهلاك مما يترتب عليه زيادة الواردات وخلق أعباء إضافية للإنفاق الحكومي خاصة في ظل الزيادة المتوقعة في أسعار القمح العالمية.

البديل الثالث: إلغاء الدعم في كافة صوره بالنسبة للمنتجين والمستهلكين أي تحرير الأسعار تحريرا كاملا ويترتب على هذه السياسة نقص الإنتاج والاستهلاك بدرجات تتوقف على مرونة استجابة كلا من العرض والطلب. وفي هذه الحالة تنخفض الفجوة الاستيرادية بصورة جوهرية وهذه السياسة لها آثار ايجابية كبيرة بالنسبة للإنفاق الحكومي إلا أنه يجب النظر بعين الاعتبار إلى الآثار السلبية التي يتعرض لها المستهلك والذي يمكن أن يعوض الفئات المتضررة منه بزيادة دخولهم الحقيقية وذلك من حصيلة الواردات والدعم. وليس هذا بالأمر السهل إلا أنه أفضل الحلول.

إن موضوع تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح بمصر معقد وليس بالسهل ومع ذلك بتوفيق من الله ثم بتكاتف جهود الجهات المعنية وشحذ الهمم بوسعنا على الأقل الوصول إلى الحدود الآمنة منه وذلك بتنفيذ المحاور المشار إليها سابقاً. ويعتبر ذلك تحدياً يواجه العاملين في مجال البحث العلمي ويفرض عليهم مواصلة البحث والتطوير والتحديث،  بهدف التعرف علي كيفية استغلال الإمكانيات الزراعية المحدودة،  ولإحداث تنمية مستدامة تؤدى إلى زيادة الإنتاج، مع الحفاظ على الموارد الأرضية والمائية والبيئية وصيانتها في نفس الوقت. وعلى الرغم من أن دور البحوث العلمية في إحداث التنمية والإسراع بمعدلاتها يعتبر عاملا أساسيا إلا أنه يتأثر بالعديد من العوامل اللازمة لنجاح هذا الدور و التي منها توفير الاستثمارات في المجالات الزراعية المختلفة، وإعداد البنية الأساسية والفيزيقية في مجال البحوث، ومستلزمات الإنتاج، إضافة إلى ضمان التدريب للقوى البشرية سواء بالداخل أو الخارج.

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى