اخبار لايتالأخبارالمياهالنيلبحوث ومنظماتحوارات و مقالاتمشروعات الريمصر

د خالد وصيف يكتب: تاريخ المصريين ما بين ترويض النهر وتلجيمه

لكل مقام مقال ولكل تاريخ احتفال. لم يكن هناك أفضل من العاشر من رمضان تاريخا لافتتاح محور روض الفرج والكوبرى الملجم الذى يصل مابين شرق النيل وغربه. العاشر من رمضان هي ذكرى عبور من نكسة الى نصر، وهي ذكرى انتصار الإرادة المصرية وهى تمسك بخرطوم مياه لتهدم به جبالا من الرمال المدعمة بالدشم والمزروعة بمدافع النابالم. انتصار عظيم لا يمكن تجاوزه او نسيانه. ومنذ بدأنا ترويض النهر حتى وصلنا لتلجيمه جرت مياه كثيرة تحت الجسور.

أمضى المصريون تاريخهم كله في محاولات دؤوبة لترويض النهر، بدأها الملك مينا حينما اقام الجسر الايسر لنهر النيل حتى يحمى المياه من الهدر في رمال الصحراء الغربية، واستمر على النهج محمد على باشا الذى بدأ في عهده انشاء اول قناطر للتحكم في المياه عند القناطر الخيرية، صادفها حظ عاثر نتيجة أخطاء من المهندسين الفرنسيين فتأخرت في التنفيذ، ثم واجه محمد على ضائقة مالية نتيجة حروبه في الشام فقرر هدم الاهرامات لاستخدام حجارتها في بناء القناطر، ارتاع مدير المشروع الفرنسي ونجح في اقناع محمد على باستخدام حجارة من جبل المقطم حتى ولو كانت تكلفة النقل اكبر. لكنها كانت فرصة رائعة ليطبق اول جيل من المهندسين المصريين ما تعلموه من بعثتهم في فرنسا. اثنان لا ثالث لهما قامت على اكتافهما مدرسة الهندسة المصرية هما مظهر وبهجت اللذان تقلدا الباشوية وتوليا نظارة الاشغال العمومية فيما بعد.

استمرت محاولات ترويض النهر ببناء قناطرمحمد على في بداية القرن العشرين لتلافى أخطاء القناطر القديمة، ثم تلاها خزان اسون، وفى منتصف الستينيات نجح المصريون في تمام ترويض النهر ببناء السد العالى، وهو ما استلزم إعادة النظر في كل المنشآت المقامة على النهر بعد ان اختلفت مناسيب المياه بعد بناء السد، أعيد بناء سلسلة جديدة من القناطر في اسنا ونجح حمادى واسيوط، وقبلهم في فارسكو وادفينا. ليتحول النيل من نهر جامح الى مجرى مائى وديع خاضع لارادة بشرية تدقق وتحسب وتصرف المياه بحساب.

الخديوى إسماعيل هو صاحب قرار انشاء اول كوبرى يصل ما بين جسري نهر النيل، لتنفيذ حلمه في الربط بين ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا) ومنطقة الجزيرة، كان ذلك في عام 1869 اثناء احتفالات افتتاح قناة السويس، وبدء العمل تحت اشراف نظارة الاشغال العمومية. استغرق الانشاء عامين وتكلف اثنائها 113 الف جنيه، والطريف ان العبور عليه لم يكن مجانا. كانت رسوم العبور حسب نوع المار بالجسر فالرجال والنساء ربع قرش والأطفال والغزلان معفيين من الرسوم والعربات المليئة بالبضائع قرشين والفارغة قرش واحد. في عام 1932 تم عمل كوبري جديد مكان الكوبري القديم يفي بحاجة النقل المتزايدة والحمولات الحديثة ويتلاءم مع ما وصلت إليه القاهرة من عمران. تم افتتاح الكوبرى الجديد –كوبرى الخديوي إسماعيل- في يونيو 1933 لكن المصريون احتفظوا له بالاسم القديم، كوبرى قصر النيل.

من كوبرى قصر النيل لكوبرى تحيا مصر مر قرابة القرن من الزمان. تطورت التكنولوجيا وانطلقت لآفاق ارحب. تابعت انشاءات الكوبري الملجم بشكل يومي خلال الستة شهور الأخيرة، حيث امر عليه يوميا في طريقي لمكتبي الذى يبعد عشرين مترا عن موقع الكوبرى. هو عمل هندسى كبير ومتميز سواء فى مستوى جودته او مدة تنفيذه القصيرة.

مشروعاتنا الكبرى كلها قامت بأظافر وعرق ودماء المصريين. لا شيء وجدناه مجانا او اتى الينا منحة او هدية. شارك في التنفيذ أربعة آلاف مهندس وفنى وعامل وبخبرة وطنية خالصة. هذا عدد متواضع لإجمالي المشتركين طوال مدة التنفيذ التي استغرقت ثلاث سنوات. التكنولوجيا الحديثة اتاحت معدات وأجهزة تقوم مقام الجهد البشرى.

تذكرت ترعة المحمودية وانا اشاهد الاوناش الضخمة والمعدات الحديثة التي تعمل في الكوبري، ترعة المحمودية اشترك في حفرها ستون الف عامل بالفأس والغلق، مات منهم عشرون الف نتيجة الظروف القاسية التي كانوا يعملون خلالها. اشترك في حفر قناة السويس حوالي مليون عامل مصري مات منهم مائة الف تحت الرمال خلال عشر سنوات هي مدة الحفر التي كانت تتم بالفأس والغلق حتى توفر الشركة الفرنسية تكلفة استيراد معدات بخارية من الخارج. كانت روح الفلاح المصري الذى يعمل بالسخرة هي ارخص عند ديليسبس من الآلة البخارية. ثمن فادح سدده المصريون مقدما لكل مشروعاتهم العملاقة.

كوبري تحيا مصر هو الثالث من النوع الملجم في مصر، هناك كوبرى السلام الملجم الذي يربط شرق القناة بغربها، وهناك في اسوان يوجد كوبرى ملجم ثان. والثالث عند روض الفرج هو الأكبر والاعرض، والاهم من موسوعة جينيس اننا بنينا كوادر بشرية لديها خبرات في تخصص نادر من الانشاءات. قوة ناعمة تفيد مصر في افريقيا المتعطشة للخبرات.

استوقفني التعريب البديع للاسم العلمي للكوبري الملجم: يلجِّم ، تلجيمًا ، فهو ملجِّم ، والمفعول هو ملجَّم، اى محكم السيطرة عليه. هو اختيار شامي بلاشك فالشوام هم أساتذة التعريب وصك المصطلحات، والمصريون هم أساتذة تنفيذ تلك المصطلحات وأصحاب سبق وجودها على ارض الواقع.

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى