الأخبارالاقتصادالانتاجبحوث ومنظماتمصر

د جمال صيام يكتب: مثلث الإصلاح لتطوير الزراعة المصرية….كيف؟

أستاذ الاقتصاد الزراعى – كلية الزراعة – جامعة القاهرة – مصر

تعرف المؤسسات Institutions على أنها مجموعة القواعد التى تحكم العلاقات بين الاشخاص الطبيعيين والمعنويين وسلوكياتهم، وهى على ذلك تضم المنظمات والسياسات والتشريعات والقوانين والعقود والأعراف الحاكمة لهذه العلاقات والسلوكيات.

وتشير الأدبيات الاقتصادية إلى أن المؤسسات (بهذا التعريف) لا تقل أهمية عن الاستثمارات فى تحقيق النمو الاقتصادى.وبينما تلعب الأسعار دوراً رئيسياً فى توجيه الإنتاج الزراعى واستغلال الموارد الزراعية، فإن البيئة المؤسسية Institutional Environmentتدخل ضمن العوامل غير السعرية  التي تلعب دوراً لا يقل أهمية عن السياسات السعرية فى تحقيق الأهداف المنوطة بالقطاع الزراعى لا سيما في ظل اقتصاد السوق الحر.

ومنذ أواخر الثمانينات تحولت الزراعة المصرية بمقتضى برنامج الإصلاح والتكيف الهيكلى  من مرحلة التدخل الحكومى (1964-1986) إلى حقبة إقتصاد السوق الحر والممتدة حتى الآن والتى شهدت إصلاحات سعرية شملت تحرير أسعار المنتجات الزراعية والتخلص من الدعم المقدم لمستلزمات الانتاج الزراعى وتحرير أسعارها وتحرير العلاقة الايجارية للاراضى الزراعية ( خلال فترة إنتقالية من 1992-1997) وتحرير قرارات المزارعين فيما يتعلق بالتركيب المحصولى والدورة الزراعية.

هذا التحول على صعيد الاصلاح السعرى فى القطاع الزراعى، لم تصاحبه إصلاحات مؤسسية بمعدلات تتواءم مع ماحدث من تغير جذرى فى الأدوار بين الحكومة (والقطاع العام) من جانب والقطاع الخاص من جانب آخر.

نشأ عن هذا التباطؤ فى الاصلاح المؤسسى وعدم مواكبته للإصلاح السعرى والمالى ما يمكن أن يطلق عليه الفراغ المؤسسىInstitutional vacuum   ، ويتمثل هذا الفراغ المؤسسى في ثلاثة جوانب ،

  •  الجانب الاول هو عدم مراجعة الاستراتيجيات والسياسات الزراعية بما يتطابق مع اقتصاد السوق وعدم الاستقرار على استراتيجية وسياسات محددة.
  • الجانب الثانى ، يتعلق بتقادم وعدم ملاءمة البنية التشريعية الزراعية ، فالقوانين والتشريعات الحاكمة للقطاع ما زالت في أغلبها هى تلك التى تم إصدارها منذ عدة عقود ، وحتى البعض منها الذى تم تحديثه خلال السنوات القليلة الماضية (قوانين التعاونيات والزراعة التعاقدية والتكافل الزراعى) لم يجر تفعيله على أرض الواقع لأسباب عديدة . وما زالت البنية التشريعية الزراعية تفتقد حتى الآن قوانين مهمة مثل قانون الأراضى الصحراوية وقانون الزراعة العام (ما زال قانون 1966 قائما) وقانون الثروة الحيوانية وقانون الموارد المائية والرى (ما زال قانون 1984 مطبقا) .
  • أما الجانب الثالث فيتعلق بغيبة أوضعف فاعلية المنظمات والأجهزة المسئولة عن تقديم الخدمات المساندة للإنتاج الزراعى، وتشمل منظمات المزارعين Farmers Organaizations وعلى الأخص التعاونيات الزراعية (ضعيفة الفاعلية رغم صدور القانون) وجهاز الإرشاد الزراعى (خدماته منعدمة) .

مع تطبيق برنامج الإصلاح الإقتصادى والتكيف الهيكلى تخلت الحكومة (بوزاراتها وأجهزتها المختلفة) عن كثير من المهام التى كانت تمارسها خلال حقبة التدخل – فى مجالات الإنتاج والتسويق فضلاً عن تخليها عن تقديم الخدمات المساندة وبصفة خاصة الإرشاد الزراعى والتدريب، وفى نفس الوقت لم تتقدم مؤسسات القطاع الخاص لتحل محل الدور الحكومى فيما كان يضطلع به من مهام، إما لضعف هذه المؤسسات أو لعدم تواجدها أصلا . وفى غيبة الاصلاحات المؤسسية لجأت الحكومة فى أغلب الأحيان إلى القرارات الوزارية واللجان الحكومية (مثل لجنة استرداد الأراضى ) كآليات لتسيير دولاب العمل فى القطاع، وهى آليات تفتقد – فى أغلب الأحوال – إلى الثبات والتناسق والاستدامة.

تمخض الفراغ المؤسسى بدوره عن العديد من المشكلات والمعوقات سواء بالنسبة للمزارعين أو بالنسبة للدولة، فضلا عن عرقلة النمو فى الناتج الزراعى، وضعف مؤشرات الأمن الغذائى والصادرات الزراعية.  فانخفضت معدلات الأداء إلى مستويات اقل بكثير مما كان يمكن تحقيقه فى ظل بنية مؤسسية ملائمة، كما فشلت أسواق المنتجات الزراعية ومستلزمات الانتاج الزراعى فى تحقيق التوازنات السعرية والاستقرار السعرى، ولم يتمكن المزارعون وخاصة صغارهم – نتيجة لذلك – من جنى ثمار الإصلاح المالى أو على أفضل تقدير – تمكنوا من جنى القليل منها، وأستأثر الوسطاء والتجار فى جميع الاحوال بالشطر الاكبر من هذه الثمار.

الطريق إلى الإصلاح المؤسسى والسياساتى والتشريعى 

لوضع أسس الإصلاح المؤسسى الشامل للزراعة المصرية لابد من الأخذ فى الاعتبار ما تتسم به من خصائص، أهمها أن الغالبية العظمى من المزارع صغيرة الحجم وما يستتبع ذلك من افتقاد المزارعين لمزايا الحجم الكبير وضعف قدرتهم المالية وإنتاجهم أساسا للإستهلاك العائلى. كما تتسم بمحدودية القاعدة الموردية الزراعية لا سيما الموارد المائية والموارد الأرضية. وفى ضوء هذه الخصائص ينبغي أن يستهدف التطوير المؤسسى تحويل الشطر الأكبر من الزراعة المصرية من زراعة استكفائية ذاتية   Subsistence agriculture إلى زراعة تجارية  Commercial and competitive agriculture          تستجيب لإشارات السوق وتستطيع تحقيق أهدف التنمية الزراعية سواء تلك المتعلقة  بالكفاءة الاقتصادية فى استخدام الموارد الزراعية ومن ثم الإسراع بمعدلات النمو في الناتج المحلى الإجمالى الزراعى، أو تلك  المتعلقة بأهداف الأمن الغذائى واستقرار الدخول الزراعية والتشغيل ومحاربة الفقر الريفى.

ولتحقيق الأهداف المشار إليها ، يقوم الإصلاح المؤسسى المقترح على أربع ركائز، تتمثل في:

  • أولها فى “مؤسسة البحث والتطوير” (R&D)  التى يقع على عاتقها عبء التطوير التكنولوجى وتحديث الزراعة المصرية، وذلك من خلال إنتاج وتطوير قائمة كبيرة من التكنولوجيات المتقدمة ، تشمل الأصناف عالية الإنتاجية (HYVs) والسلالات الحيوانية المحسنة والتكنولوجيات الموفرة للمياه سواء من خلال الأصناف قصيرة المكث وقليلة الإحتياجات المائية والمقاومة للجفاف والمقاومة للملوحة أو تكنولوجيات وأساليب الرى أو إعادة استخدام المياه ، فضلا عن تكنولوجيات تدوير المخلفات الزراعية والأستفادة بممكنات التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية والزراعة العضوية.

يلاحظ فى هذا الصدد أن الحكومة لا تولى هذه الركيزة أى قدر من الإهتمام ، وذلك فى ضوء ضآلة مخصصات الإنفاق على البحوث الزراعية والتى لم تتجاوز 200 مليون جنيه سنويا أى ما يمثل 0.07% من الناتج المحلى الزراعى في 2017 .

وهذا القدر من المخصصات جعل الإنتاجية المحصولية فى حالة من الثبات النسبى (لاحظ على سبيل المثال ثبات الإنتاجية الفدانية للقمح على مدى العشر سنوات الماضية ) ويدفع بالزراعة المصرية إلى دائرة التخلف ، لا سيما وأنه لا مخرج آخر لها غير التقدم التكنولوجى فى ضوء محدودية الموارد الأرضية والمائية المتاحة.

إن هذا التحدى الهائل يقتضى زيادة نسبة الإنفاق على البحوث الزراعيةإلى  ما لا يقل عن 1% من الناتج المحلى الزراعى بحلول 2023 وليس بحلول 2030 كما تقررها استراتيجية التنمية الزراعية2030.

  • أما الركيزة الثانية فتتمثل فى مؤسسة الإرشاد الزراعى، ويقع على عاتقها توصيل التكنولوجيات المذكورة إلى المزارعين، فهى بمثابة حلقة الوصل بين “مؤسسة البحث والتطوير” من جانب والمزارعين أو الكيانات الممثلة لهم من جانب آخر.
  • أما الركيزة الثالثة فتتمثل فى ” قيام منظمات قوية للمزارعين” كالتعاونيات الزراعية، فبدلاً أن تتعامل مؤسسة الأرشاد الزراعى او غيرها من المؤسسات مع أربعة ملايين مزارع منتشرين فى ربوع مصر فى اربعة آلاف قرية، فسوف تتعامل مع أربعة آلاف منظمة (تعاونية أو رابطة أو اتحاد) الأمر الذى يرفع كفاءة الخدمة الإرشادية، كما أن هذه المنظمات تعد آلية لتطبيق منهجية العمل الجماعى كوسيلة لتحقيق مزايا اقتصاديات الحجم Economies of scale فى مجالات إنتاج وتسويق المنتجات الزراعية وتوريد مستلزمات الإنتاج الزراعى،  الأمر الذى يساعد بدوره على مواجهة مشكلة التفتت الزراعى ويخفف من آثارها السلبية ويوقف تفاقمها مستقبلا.
  • الركيزة الرابعة فتتمثل فى ” مؤسسة التمويل الزراعى والريفى”  ويقع على عاتقها توفير التمويل اللازم لمنظمات المزارعين لتحسين قدرتهم المالية على الحصول على مستلزمات الإنتاج والتكنولوجيات الحديثة. ولإصلاح مؤسسة التمويل، يقتضى الأمر إعادة هيكلة البنك الرئيسى للتنمية والإئتمان الزراعى، واستحداث وتطوير مصادر وصيغ تمويلية أخرى مثل التمويل متناهى الصغر Micro-finance والتمويل التعاونى. ولاشك أن وجود منظمات قوية للمزارعين يساعد على التغلب على مشكلة الضمانات، ويقلل مخاطر الإئتمان مما يشجع على ضخ المزيد من القروض إلى القطاع الزراعى والريفى ويؤكد كفاءة استخدامها.

ولكى تتحقق شمولية وتكامل الاصلاح المؤسسى المقترح ينبغى التأكيد على أمرين:

الأول: تكامل عملية الإصلاح بين الركائز الأربع المشار إليها، إذ أن ضعف إحداها ينعكس سلباً على كفاءة المؤسسات الأخرى والآداء المؤسسى بشكل عام، الأمر الثانى: تحسين البيئة المؤسسية العامة، وفى هذا الشأن ينبغى تحديث وتطوير القوانين والتشريعات المرتبطة بقطاع الزراعة والتى تقادمت بشكل كبير. وفضلا عن الحاجة الماسة إلى تحديث هذه القوانين، هنالك أيضا الحاجة إلى إصدار قوانين جديدة تفتقدها البنية التشريعية الحالية، وقد صدرت خلال السنوات الأربع الماضية  قانون التعاون الزراعى وقانون الزراعة التعاقدية وقانون التكافل الزراعى ، ومن القوانين المطلوب إصدارها قانون الزراعة  وقانون الأراضى الصحراوية وصناديق موازنة الأسعار، وتفعيل قانون تنظيم المنافسة ومنع الاحتكار فيما يتعلق بضبط أسواق المنتجات الزراعية ومستلزمات الإنتاج الزراعى وبخاصة الأسمدة الكيماوية، وتمكين منظمات المزارعين من تحريك الدعوى القضائية لمواجهة الممارسات الإحتكارية.

لذلك فإن عملية الإصلاح المؤسسى للزراعة على النحو المتقدم أمر يستغرق وقتاً طويلاً نسبيا فضلا عما يقتضية من جهود كبيرة ينبغى أن تتم بالتوازى فى مختلف حلقات الإصلاح، ومع ذلك فإن نقطة البداية الحقيقية فى عملية الإصلاح هى منظمة المزارعين باعتبارها- إذا قامت على أساس صحيح – شرطاً ضرورياً للإصلاح المؤسسى فى الزراعة المصرية، بينما تعد الحلقات المؤسسية الأخرى: البحث و التطوير، الإرشاد، التمويل، شرطاً كافياً. وفى جميع الأحوال يقتضى الأمر البدء فوراً فى عملية الإصلاح، إذ أن استمرار التباطؤ فى هذا الشأن سوف يكون أمرا باهظ  التكلفة على كافة المستويات مستقبلا سواء بالنسبة للتنمية الزراعية والأمن الغذائى أوالمزارعين ومستوياتهم المعيشية أو بالنسبة للاقتصاد المصرى بوجه عام.

 

 

 

 

 

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى