أفريقياالأخبارالمياهالنيلالوطن العربى

دخالد وصيف يكتب: مصر والسودان وكفى

خبير موارد مائية – مصر

في اعقاب الزيارة الناجحة لرئيس المخابرات ووزير الري المصري للخرطوم، عندي ثلاث حكايات ثم ادلف بعدها للموضوع. الأولى من اليابان التي زرتها ضمن مجموعة من مهندسي الرى المصريين في عام 2001 لتلقى تدريبات هناك.

امضينا شهرين في أحد مراكز التدريب وتعرفنا عن قرب على الحياة اليابانية التي لا تعرف سوى العمل ثم العمل ثم الادخار. انبهرنا بالمنجزات اليابانية والعقلية التي انتجتها خلال فترة قصيرة بعد تدمير البلد اثناء الحرب العالمية الثانية.

وفى احدى الزيارات التي تم ترتيبها لنا لمدينة هيروشيما، زرنا خلالها متحف السلام بالمدينة الذي يؤرخ بالصور لأحداث يوم الضرب النووي الدامي.

خطر على بالى سؤال وجهته للأستاذ الياباني الذى رافقنا. سألته عن قرار ضرب ميناء بيرل هاربور، وهو القرار الكارثي الذى دفع الولايات المتحدة للقيام بالانتقام لجنودها بإلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما ونجازاكى في أغسطس 1945، سألته عن دوافع اتخاذ قرار جنوني مثل هذا القرار وهل غاب عن العقلية اليابانية المتميزة عواقبه.

قال لى الرجل: كانت هناك دائرة من أصحاب المصالح الضيقة هي التي دفعت وشجعت لاتخاذ قرار الضرب، وأكد الرجل ان هذا القرار لم يكن ليحقق المصلحة اليابانية العليا.

الحكاية الثانية بطلها شارل ديجول، بطل حرب تحرير فرنسا ومؤسس جمهوريتها الخامسة. هذا الرجل عندما كانت تعرض عليه مشكلة دولية كان يقول دائما: افردوا الخريطة أمامي، وعلى الخريطة كان يستعرض المشكلة وبدائل الحل.

الحكاية الثالثة كانت في دار السلام بتنزانيا، حيث جرى احتفال بيوم النيل كان يتم عقده سنويا بشكل دوري في كل دولة من دول الحوض، وحضره ممثلون لكل دول حوض النيل، بعد انتهاء فعاليات الحفل تم ترتيب حافلة لنقلنا للمطار، ولتقارب مواعيد الإقلاع اجتمعنا نحن والوفد السوداني في حافلة واحدة.

جلست بجوار مستشار بوزارة الري السودانية، كان رجلا ظريفا مرحا ملاء الأجواء باحاديثه التي كانت تتلوها ضحكات من أعضاء الوفد السوداني ثم منا نحن بعد ان انتبهنا الى ذكريات له اثناء التعامل مع المهندسين المصريين ثم حكايات له عن نجيب محفوظ وحارات القاهرة التي كان يعرفها بالاسم..

عندما اقتربنا من المطار سألته عن اسم الجامعة التي درس بها بعد ان غلب على ظني انه قضى سنوات دراسته بالقاهرة.

فوجئت بالرجل يقول لي: انه لم يتعلم بمصر ثم اردف بهدوء: لكنني تعلمت من المصريين. في إشارة الى المهندسين المصريين الذين كانوا يبتعثوا لإدارة الري المصري في الخرطوم.

كان الرجل ممتنا شاكرا للذين تعلم منهم أصول مهنة الرى التي لا تكتمل دراستها بدون خبرة ميدانية تتوارثها الأجيال بعضها من بعض.

افترقنا في المطار وظلت كلمت الرجل عالقة في ذاكرتي: لم يتعلم في مصر لكنه تعلم من المصريين.

من اليابان نتعلم ان المصالح الاستراتيجية العليا للسودان ومصر متشابكتين بدرجة كبيرة، وان أي اختلال في تلك العلاقة يعنى ان أحد الطرفين قد قدم فائدة عاجلة على المصلحة الاستراتيجية المستديمة. تلك الفوائد العاجلة لا تخدم القاعدة العريضة لأى من الشعبين، وربما تكون لأسباب أيديولوجية ضيقة، لكن النظرة الواسعة التي تنظر للمستقبل البعيد كما تنظر للماضي القريب والبعيد تؤكد وحدة المصير المصري السوداني.

من شارل ديجول نتعلم مبدأ الجغرافيا السياسية التي تضع قواعد لا انفصام لها. لا بديل عن التعاون (او الهيمنة) في المحيط الجغرافي الواحد، وحيث ان فرض الرأي والهيمنة أصبحا من أدوات الماضى السحيق فلم يعد امامنا سوى تطبيق آليات التعاون. فلا يجب ان تنشأ خصومات دائمة بين دول تجمعها حدائق خلفية واحدة.

هذا المبدأ لا يوجد له مثال أوضح من مصر والسودان ( ومصر وليبيا أيضا نفس الحال بدرجة تالية). هناك خط تماس مباشر يبلغ طوله ألف كيلومتر، هذا التماس البرى يضاف له خط تماس مائى عبر نهر النيل كان وسيلة النقل الوحيدة والاساسية للبضائع وللبشر بين البلدين.

هنا تقول الجغرافيا كلمتها ويفرض التاريخ رأيه، انه مهما طال الخلاف حول موضوع ما فهو لا يجب ان يمثل أكثر من زوبعة في فنجان، وما مقدار فنجان زوابع حينما يتم القاؤه في بحيرة ناصر التي نقتسمها معا!.

ومع قيد الجغرافيا الواضح تأتى القوة الناعمة المصرية. صحيح هي قوة تعرضت للتآكل خلال السنوات الماضية، كما تعرضت لمحاولات الازاحة والتهميش من قوى أخرى مستجدة، لكن الاستطلاعات تؤكد ان الفضاء الإعلامي المصري من مسلسلات وافلام وحتى برامج توك شو مازالت تستحوذ على اهتمام قطاع كبير من الشارع السوداني.

انتهت الحكايات الثلاث وبقيت دروسها البليغة، ربما كانت هي في ذهن صاحب القرار المصرى الذى تحلى بقدر كبير من الحكمة والهدوء في التعامل مع الملف السودانى، فالسودان جغرافيا وتاريخ ومصالح لا يمكن الخصام معها او تجاهلها.

وحينما تعلن السودان التزامها بمسار واشنطن كمسار وحيد لحل خلافات سد النهضة، فهى تنظر الى المصالح العليا السودانية بشكل واضح، وهى تعقد صلحا مع احكام التاريخ المشترك الذى لا فرار منه ولا انكار له، كما تتسق مع قيود الجغرافيا التي لا هروب من حدودها..انها السودان القريبة من القلب كما هي قريبة من الحدود. السودان وكفى..

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى