الأخبارالاقتصادالانتاجالصحة و البيئةبحوث ومنظماتحوارات و مقالاتمصر

د طارق قطب يكتب: هيكلة التعاونيات الزراعية كشركات للقطاع الخاص – رؤية من واقع جائحة الكورونا

مدير البرامج القطرية بقسم اسيا والباسفيك- الصندوق الدولي للتنمية الزراعية الأمم المتحدة

قامت العديد من حكومات الدول النامية، وبدعم من جهات التمويل الدولية خلال الثلاث عقود الماضية، بتعظيم شراكات المزارعين مع القطاع الخاص لتحرير العمليات الزراعية، وفرض آليات السوق من عرض وطلب وتسعير حر لمدخلات الإنتاج وتقديم قروض ميسرة لصغار المزارعين والمنتجين، وتمويل المشروعات الصغيرة والمتناهية في الصغر لأصحاب الحيازات الصغيرة وغيرهم من فقراء المجتمعات الريفية.

الا أن أزمة وباء الكورونا الحالية التي تعصف بآليات الإنتاج الزراعي والحيواني على مستوى العالم برهنت الى حد كبير على ضعف قدرات القطاع الخاص التقليدي للتعامل مع معطيات الأزمة نتيجة لعوامل عديدة، منها على سبيل المثال القيود على التحرك في أوقات حظر التجول، والقصور في تأمين العمالة صحياً، وغياب القدرة المالية لدفع رواتب العمال بصورة منتظمة لحمايتهم اجتماعياً، وبالتالي اضطرت كثير من شركات القطاع الخاص وتجار الجملة الى تسريح العمالة والتوقف الجزئي أو الكلى عن النشاط.

وهذا جعلنا نتأمل في هيكل العملية الزراعية في مصر والحلول المتاحة التي يجب البدء في الأخذ بها والتخطيط مستقبلاً لإدماجها في الاستراتيجيات الزراعية حتى تكون أحد أطواق النجاة في أزمنة الازمات تساعد البلاد على الصمود والاستمرار في انتاج الغذاء الضروري.

ويبرز في هذا السياق دور الجمعيات الزراعية بمختلف أنواعها لتقدم نفسها كمؤسسات زراعية تنموية قادرة على تزويد المزارعين، وبالذات أصحاب الحيازات الصغيرة، بمستلزمات الإنتاج، والاضطلاع بالتسويق الزراعي، دون المساس بثوابت ومكتسبات مبادرات خصخصة الخدمات الزراعية وتطبيق آليات السوق.

وبرؤية متأنية، فان تلك الجمعيات التي يقترب عددها من 6700 جمعية تغطى مصر طولاً وعرضاً، وتتنوع ما بين جمعيات ائتمان تشكل النصيب الأكبر من مجموع الجمعيات بنسبة 80%، الى جمعيات الإصلاح وجمعيات الاستصلاح الزراعي.

والمتتبع لتاريخ انشاء تلك الجمعيات وتطورها ثم انحسار دورها يجدها نشأت فتية في مطلع القرن الماضي كشركات زراعية واعدة نتجت عن الحركة الزراعية التعاونية النشطة في ذلك الوقت، الى ان تطورت لتضم كلا منها كياناً لإدارتها مكون من 15 الى 25 مهندساً زراعياً، بالإضافة الى الفنيين والإداريين والعمالة المدربة، الامر الذي جعلها تساهم في النهضة الزراعية في مصر خلال تلك الحقبة. وامام انشاء بنك التسليف الزراعي “البنك الزراعي المصري حاليا” وتعاظم اختصاصاته تضاءل دور ومسئوليات وإمكانات الجمعيات الزراعية، والتي احتفظت بالكاد بمهام حصر الحيازات الزراعية التي على أساسها يحصل المزارعون على مستلزمات الإنتاج، واقتصرت قوتها العاملة على مدير للجمعية وفني يقوم بعملية الحصر التقليدي دون حتى الاستعانة بتقنيات الحصر المعاصرة من أنظمة تحديد المواقع “العالمية” (Global Positioning Systems – GPS) ونظم معلومات جغرافية وقواعد بيانات وما شابه.

ونقترح هنا إعادة هيكلة دور الجمعيات الزراعية من واقع ازمة الكرونا الحالية، ودعمها تقنيا وماليا لتكون حجر الزاوية في تقديم الدعم الفوري للمزارعين، وبالذات صغيري الحيازات.

كما نقترح أن تدار كل جمعية بواسطة مجلس إدارة وأعضاء جمعية عمومية بنسب ثابتة للشباب والمرأة وهذا ليس بدعة فالشباب قادر على العمل خلال فترات الازمات والتحرك داخل المجتمعات الريفية وانشاء مشروعات صغيرة تدعم العملية الزراعية مثل المشاتل وورش اصلاح الجرارات والحراثات وطلمبات الري وغيرها، بالإضافة الى مشروعات ما بعد الحصاد والتسويق. كما ان المرأة الريفية تستطيع ان تلعب دوراً حيويا في العملية الزراعية ككل، وخصوصاً الزراعة المنزلية، ومن ثم انتاج الغذاء من خضروات وفواكه ومنتجات البان ولحوم وغيرها لتأمين غذاء أسرتها وجيرانها.

وهنا نستدعى بعض خبرات البلدان الأخرى، والتي تدعم المشروعات الممولة من الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (IFAD) كثيراً من نماذج هذه الجمعيات الزراعية، التي تتنوع درجات نضوجها من جمعيات ناشئة قد تقتصر عضويتها على الشباب أو المرأة فقط طبقاً لنوعية النشاط، إلى جمعيات عملاقة مختلطة العضوية تقدم خدمات متكاملة، ليس لأعضائها فقط، ولكن لكافة القرى الواقعة في نطاقها الجغرافي.

و يتعدى دور النمط الأخير من الجمعيات الأدوار التقليدية للجمعيات الزراعية لتكون مسئولة أيضاً عن تسليف منتفعيها و تقديم الضمانات اللازمة للبنوك الزراعية و التجارية، و تسويق منتجاتهم من خلال شراكات ثلاثية بين المزارعين و الجمعية و التجار تقوم في كثير من الحالات على دعم الزراعة التعاقدية (Contract Farming)، والتي يضمن المزارعون من خلالها تسويق محاصيلهم مقدماً و إرشادهم لاحتياجات السوق من محاصيل قابلة للتسويق، و مشاركتهم جزء من مخاطر الزراعة أو التخزين أو النقل من خلال تفعيل آليات تأمين المحاصيل (Crop Insurance Mechanisms).

ونقترح في السياق المصري أن تكون الجمعيات الزراعية مختلطة العضوية نظرا لتركيبة المجتمع والأنشطة المستهدفة، وبنسب ثابتة لتمثيل الشباب والمرأة في مجالس اداراتها وعضويتها. كما نرى أيضا ان تستعيد هذه الجمعيات كافة اختصاصاتها المسلوبة عبر العقود الماضية مع التوسع الرأسي في مهامها وأصولها لتتضمن تأسيس شركات للمزارعين يكون الهدف الأساسي منها هو إنشاء مصانع ومضارب وتقديم خدمات ما بعد الحصاد من نقل وتخزين وتسويق وغيرها. والامر البالغ الأهمية هو رفع قدرات هذه الجمعيات من الوجهة التقنية لإنشاء المنصات الاليكترونية للتعامل مع كافة الأمور الخاصة بمستلزمات الإنتاج والتسويق والدعم والارشاد والتمويل عن بعد وخصوصاً في زمن الأزمات.

لقد كانت مصر رائدة في مجال العمل الزراعي التعاوني على مستوى العالم، وقد أطلت أزمة جائحة الكرونا علينا بتوابعها الخطيرة لتجعلنا نعيد النظر في تجارب الماضي، ونستلهم منها ما يمكننا من بناء مؤسسات زراعية فاعلة نعتمد عليها، ليس فقط في الأوقات العادية، ولكن بالضرورة في أوقات الأزمات.

 

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى