اسماكالأخبارالانتاجالصحة و البيئةالمناخالمياهبحوث ومنظماتحوارات و مقالاتمصر

د علاء الدين عيسى يكتب:عصر السيادة الفيروسية فى الاحياء المائية والمناخ

 أستاذ ورئيس مجلس قسم طب ورعاية الأحياء المائية –كلية الطب البيطرى جامعة القاهرة
استشارى الطب الوقائى بشركة قناة السويس للإستزراع السمكى والأحياء المائية
خبير بيطرى دولى بمشروع تنمية الأستزراع البحرى بمصر MADE 2
مدير المكتب العلمى والدعم الفنى لشركة مكة لصناعة اعلاف الأسماك

لعقود طويلة ظلت المسببات البكتيرية هى الشبح الذى يهدد العوالم المائية تارة بالعدوى المباشرة وتارة بالعدوى الثانوية بميكروبات انتهازية متحفزة نتيجة الأجهاد البيئى واستنزاف الجيش المناعى للاسماك بشقيه الخلوى و المكتسب ولكن فى خلال الأعوام القليلة الماضية بدأ هذه المعادلة فى التغير الملحوظ .

أزاي؟

تسببت نوبات التغيرات المناخية الحادة من انبعاثات غاز ثانى اكسيد الكربون و غازات المستنقعات فى ارتفاعات حادة وغير مسبوقة فى حرارة العالم وما صاحبها من ذوبان الجليد فى القارتين القطبيتين وازدياد مناسيب المياه بالمحيطات ثم البحار وما تلاه من تخفيف لقلوية المياه المالحة تدريجيا وازدياد حموضة المياه.

والنتيجة؟

تسببت فى استنفاذ الكالسيوم من بعض الكائنات القشرية والصدفية مما هددها بالأنقراض فى حال استمرت معدلات الحموضة فى اضطراد مستمر .
وعلى الجانب الأخر ونظرا للنقص المستمر فى انتاجيات البروتين الحيوانى الأرضى ( الحيوانات الكبيرة والطيور) بدأ العالم يتجه بأنظاره الى ما يسمى بالثورة الزرقاء او الأستزراع السمكى الذى امسى يمثل اقتصاديات دول كاملة احيانا ونظرا للنقص المستمر فى المخزون السمكى بالمصايد الطبيعية نتيجة التلوث والتغيرات المناخية والصيد الجائر.

والتالي؟

اصبح من المنطقى تكريس الجهود لتطوير تقنيات الأستزراع السمكى بأستمرار للوصول الى اقصى انتاجية واجود نوعية من الأسماك والقشريات ولكن فى خضم كل ذلك ظهرت سلبيات كثيرة اثرت بقوة الى نمو واستدامة الاستزراع السمكى ومعظمها ارتبط بجودة مياه الأستزراع و نوعية الغذاء و التغيرات الحادة فى المناخ والتلوث البيئى وما صاحب ذلك من انفلات غير مسبوق لخواص المياه من تدنى نسب الأكسجين وارتفاع نسب الأمونيا و المواد العضوية وإرتفاع حاد للحمل الميكروبى وتثبيط حاد لجهاز المناعى الجلدى والجهازى و ما يتبع ذلك من حدوث غزو ميكروبى ينجم عنه نوبات من الأمراض ونفوق جماعى يجهض كل محاولات تنمية اليات الأستزراع ومن ثم يؤثر سلبا على استدامة عملية الأستزراع السمكى برمتها.

وموجات المناخ؟

فى ظل ارتفاعات حرارية حادة غير مسبوقة يشهدها العالم كله شرقا وغربا وما يصاحب ذلك من تدنى نسب الأكسجين الذائب فى المياه وتغير خواص المياه الكيميائية وفى ظل معاملات مزرعية خاطئة لا حصر لها من استخدام غير امن للمضادات الحيوية والمواد الكيميائية والهرمونات وتغذية خاطئة و معاملات مائية خاطئة وندرة المياه والأعتماد الأساسى على مياه الصرف الزراعى وما تحمله من ملوثات كيميائية وبيولوجية.

والنتيجة؟

نشأت عمليات حيوية عكسية كان من شأنها تثبيط الأجهزة المناعية للأسماك بما يجعلها قابلة للإصابة بأضعف الميكروبات حتى تلك التى توجد بصورة دائمة متعايشة فى مياه الأحواض ليس هذا فحسب بل ادت هذه التغييرات الحادة الى نشوء وتطور وانتعاش اصغر الكائنات واخطرها على الإطلاق الا وهى الفيروسات التى وبكل المقاييس ستمثل عصر السيادة الميكروبية فى العالم لعقود متواصلة سيكون من شأنها تغيير الخريطة الجينية للكثير من الكائنات فى العالم سواء الأرضية منها او المائية ليس هذا فحسب بل ستكون سببا فى اندثار انواع من الكائنات فى غضون عقود قليلة .

فى ظل الزيادة المضطردة فى معدلات نشوء وتطور وتحور الفيروسات بصورة جعلت منها شبح يهدد العالم اجمع بالفناء كما هو الحال فى فيروسات الأنفلونزا التى ظهرت فى بداية القرن العشرين لتبيد 40 مليونا من البشر (H1N1 ) فى سنة واحدة هى 1918 ثم بعدها بأربعون عاما اى عام 1958 ظهر وباء عالمى اخر من نفس الفيروس فى اسيا ليبيد اكثر من 5 ملايين من البشر ثم ازداد معدل التحور والطفرات فى الفيروس ليسبب وباء جديد فى هونج كونج سنة 1968 تسبب فى مقتل الألاف من البشر وبعد عشرة اعوام اخرى يظهر وباء من نفس الفيروس ليقتل الالاف من البشر والحيوانات المائية سنة 1979 ثم حدث تحور جديد ليظهر فيروس اخر متحورا عن الأول سنة 1999) H5N1وH3N7) ثم عاود ظهور الفيروس سنة 2004 و 2005 وكان من اثاره ابادة ملايين القطعان من الدواجن والطيور ادى الى ضرب صناعة الدواجن فى العمق الى الحد الذى وصلت فيه خسائر بعض الدول الى مليارات الدولارات وبسبب خطأ السيطرة والوقاية الخاطئة وفشل اللقاحات المستخدمة انذاك توطن فيروس انفلوانزا الطيور فى بعض الدول مثل اندونيسيا وفيتنام ومصر.

وبالتتبع الوبائى لهذا النوع من الفيروسات التى تنتمى فى الأصل الى عائلة الأورثوميكزوفيروس Orthomyxoviruses وجد ان الوعاء الجينى لتلك الفيروسات والعائل الذى يعمل على تطوير وتحور الفيروس لينتج سلالات جديدة فتاكة هو كل من النورس sea gull و البط والأوز Ducks/Geese حيث تسبب هذان الطائران فقط فى نشوء اكثر من 20 عترة من عترات الأنفلوانزا جميعها لديها القدرة على إصابة معظم الكائنات الأرضية والبحرية بما فيها الثدييات البحرية مثل الدلافين والحيتان وعجول البحر و الفقمة والتى ثبت اصابتها اصابات اكلينيكية ونفوقها بسلالات من فيروس الأنفلونزا بين H1 الى H7 وH13 و باجراء الصفة التشريحية تبين وجود التهاب سحائى ومخى ورئوى وهو ما يميز العدوى بتلك الفيروسات فى الكائنات الأخرى مثل الأرضية منها.

ليس هذا فحسب بل اثبتت نتائج العزل والتحليل الوراثى للفيروس المعزول بأن الفيروس مصدره الوبائى هو طائر النورس sea gull ومن العجيب ايضا وجود اكثر من15 عترة فيروس انفلوانزا تبدأ من H1 وتنتهى ب H 15 تستطيع اصابة البط والأوز المهاجر بدون ظهور اى اعراض واثبتت قدرتها على نقل العدوى لكائنات اخرى بحرية وارضية وهو ما يؤكد دور الطيور المائية والمهاجرة فى نقل وانتشار الفيروسات من خلال ممرات هجرة الطيور العالمية.

وفى دراسة بحثية امتدت لفترة الثلاث سنوات من 2009-2012 بقسم أمراض ورعاية الأسماك بكلية الطب البيطرى جامعة القاهرة قام فريق بحثى بقيادة الأستاذ الدكتور علاء الدين عيسى أستاذ ورئيس قسم طب ورعاية الأحياء المائية حاليا بنفس الكلية بتحديد فيروسات H5N1 فى دم بعض الأسماك مثل القراميط المغذاه عشوائيا على وجبات كبيرة من دجاج نافق القى بصورة غير شرعية بأحد الممرات المائية ببعض محافظات مصر وكذلك فى كلى بعض اسماك الأرنب Puffer fish فى خليج ابو قير وكذلك فى السوائل الليمفاوية لبعض الكائنات القشرية مثل استاكوزا المياه العذبة وبمناقشة هذه النتائج فى بحث منشور دوليا سنة 2012 حذر الفريق البحثى من تحور هذا الفيروس ليصبح بصورة او بأخرى قادرا على اصابة الاسماك والكائنات المائية الأخرى او تحور الفيروس ليصبح قادرا على اصابة البشر من خلال عمليات تداول وتشفية وتنظيف تلك الأسماك اذا لا قدر الله وصل بصورة غير متوقعة الى ملتحمة العين او الأغشية المخاطية للأنف والفم وهو ما لم يحدث حتى الأن بفضل الله ولكن اكد الفريق البحثى على الدور الوبائى للأحياء المائية فى نقل وانتشار انفلوانزا الطيور فى البيئة المصرية.

وفى عام 2014 أعلنت اسرائيل عن ظهور وباء فيروسى جديد ينتمى لعائلة الأورثوميكزوفيروس Orthomyxoviruses التى تحتوى ايضا على سلالة الأنفلوانزا بأنواعها المختلفة وقد اكتسح الفيروس الجديد اسماك البلطى النيلى المستزرعة ببحيرة الجليل هناك وسمى انذاك Tilapia LaKe Virus (TiLv) أو ما يسمى بفيروس بلطى البحيرات وبمرور الوقت تم تحليل الفيروس وراثيا ليجد العلماء المفاجئة بأن الفيروس له صلة وراثية بفيروسى الأنفلوانزا A وB من خلال تحليل التتابع الأمينى لبروتينات تلك الفيروسات وبمرور الوقت تم تسجيل حالات من النفوق الجماعى لأسماك البلطى فى دول العالم المختلفة مثل الأكوادور وتايلاند و اندونيسيا والصين و اخيرا بحيرة فيكتوريا بأعالى النيل حيث عانت ثلاث دول هم تنزانيا وكينيا واوغندا من اصابات ونفوق جماعى فى كل من اسماك البلطى المستزرعة وتلك من المياه المفتوحة.

بتشخيص المسبب المرضى اثبت انه ايضا فيروس بلطى البحيرات ولكن هذه المرة ظهر الفيروس بأعراض هضمية و مناعية تختلف تماما عن الأعراض العصبية والعينية التى ظهرت فى الأسماك المصابة بأسرائيل وباقى الدول وقد اصبح الفيروس من الأمراض التى تهدد صناعة استزراع البلطى النيلى فى فصل الصيف فى العالم بأسره ومن العجيب ربط انتشار الفيروس وبائيا ايضا بخطوط هجرة الطيور المائية عبر العالم .

ومنذ شهور وتحديدا فى شهر يونيو 2019 ظهر وباء فيروسى جديد ينتمى الى عائلة الأيريدوفيروس iridoviridae يسمى ISKNV(Infectious Skin & Kidney Necrosis Virus) تسبب فى نفوق اسماء البلطى النيلى ايضا بمعظم المزارع بدولة غانا علما بأن ذلك الفيروس كان معروف عنها لسنوات طويلة انه يصيب اسماك الدنيس والمرجانيات واسماك بحرية اخرى اذا ماذا حدث حتى يتحور هذا الفيروس ليعبر كائن بحرى تخصص فى اصابته الى كائن عذب لم يكن ليصبه من قبل فهل تحور جهاز المناعة لأسماك البلطى ام تحور الفيروس جينيا ام تغيرت البيئة المائية او حدث ذلك كله مجتمعا لينشأ عنه بزوغ مرض وبائى جديد فى اسماك البلطى النيلى ليضيف خطر جديد على قائمة الأخطار التى تهدد استدامة استزراع البلطى النيلى اقليميا وعالميا.

ومن العجيب ايضا تطور انتشار عشرات من الفيروسات التى كانت منحصرة فى انواع محددة لتصيب انواع اخرى فى بيئات مختلفة عنها تماما مثل فيروس Viral Nervous Necrosis (VNN) الذى عرف عنه اصابته لأسماك الوقار واسماك بحرية اخرى ليعبر حاجز تلك الأنواع المالحة ليصيب ايضا اسماك البلطى النيلى ونشوء انواع من الفيروسات كانت تصيب الضفادع والبرمائيات العذبة لتصيب فجأة أسماك القاروص كبير الفم مثل فيروس Large Mouth Bass Virus (LMBV) الذى كاد ان يتسبب فى انقراض هذا النوع من الاسماك فى بحيرات ولاية ميشيجان الأميريكية.

واستكمالا لهذا التحور البيولوجى العجيب ثبت علميا نشوء وتطور عشرات الفيروسات انتقلت من كائنات قشرية تعيش فى المياه المفتوحة دون حدوث اعراض الى القشريات المستزرعة مثل الجمبرى واحداث امراض ونوبات نفوق حادة وانتشار تلك الفيروسات من دولة الى دولة مهددة عرش تربية بعض انواع الجمبرى عالميا مثل فيروس النقط البيضاء White spot syndrome Virus (WSSV) والذى توطن فى كثير من دول العالم خصوصا فى جنوب شرق اسيا ومنها الى الشرق الأوسط عبر الاستيراد وحركة التجارة العالمية متسببا فى خسائر اقتصادية فادحة لقطاع الأستزراع البحرى فى تلك الدول.

ومما سبق اكاد اجزم بأن عالم الفيروسات سيكون هو اللاعب الأساسى فى تحديد بقاء الكائنات الحية سواء الأنسان او الحيوانات الأرضية او الأحياء البحرية فى العقود القادمة وربما يلعب التغير المناخى الحاد وظاهرة الأحتباس الحرارى فى نشوء وتطور انواع جديدة من الفيروسات لديها القدرة على اصابة اكثر من عائل او عوائل جديدة من شأنها تقويد جهود التنمية المستدامة فى معظم دول العالم.

انعكاس ذلك بصورة سلبية ستلقى بظلالها على الوضع الأقتصادى والتنمية والرخاء فى دول العالم خصوصا الدول النامية والفقيرة والأكثر فقرا وهو ما يتطلب معه تضافر الجهود الأممية ودعم اكثر من جانب دول العالم المتقدم لإنشاء معامل مرجعية اقليمية فى الدول النامية والدول الفقيرة الأكثر تضررا من اثار التغيرات المناخية الحادة التى تسببت فيها تاريخيا الدول المتقدمة والدول الصناعية الكبرى وذلك للتشخيص السريع للفيروسات وتشجيع صناعة اللقاحات وتوطين فكر الوقاية والتدخل السريع لمنع الأوبئة الفيروسية القاتلة من خلال تفعيل منظومات لأمان الحيوى المتكامل فى المزارع والمنشأت السمكية.

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى