الأخباربحوث ومنظماتحوارات و مقالاتمصر

د محمد بلال يكتب: من «ووهان الصين» إلى «مطروح» … رحلة إنقاذ مستقبل مصر

كانت الساعة حوالي الثالثة بعد الظهر بتوقيت مدينة ووهان حيث جاءتني دعوة للإنضمام لجروب على تطبيق «ويشات» الأكثر شهره في الصين .. كانت الأجواء يسودها التوتر والقلق الشديد الذي يبدو في وجوه كل من تقابله .. الحكومة الصينية قد بدأت في إغلاق المدينة بالكامل منذ يومين حيث تفاجأ الجميع بقرار إغلاق المدينة وتوقف جميع وسائل النقل والمواصلات العامة والخاصة وحتى الدراجات في مدة قصيرة جداً أقل من سبع ساعات! ..

الأمر الذي كشف عن أن هناك خطراً حقيقياً يواجهه كل سكان المدينة. كانت الأيام السابقة مليئة بالأخبار المتداولة عن وجود ميكروب غريب تم اكتشافه في المدينة وبدأت الأخبار تتوالى تفصيلياً عن الفيروس الجديد الأشهر في القرن الحالي “كورونا الجديد Covid-19 ” والذي بدأ في سوق “هانكو” أو “خانكو” كما ينطقه أهل ووهان.
الصينيون شعب عملي جداً .. لا تؤثر مثل تلك الأخبار على عمله وعلى إنضباطه ونظامه ، بل قد لا يبدو عليهم القلق من أي أخطار محيطة فتجدهم منشغلين بالعمل وبوضع خطط اليوم التالي وإنجاز أعمال اليوم واستمرار متابعة ورعاية الأعمال الحالية دون أي إكتراث أو مبالاة لما يحدث في الأخبار ..

يأتي ذلك على عكس مجتمعات العالم الثالث التي قد يؤدي فيها خبر عابر عن جريمة ما إلى انشغال الرأي العام وتوقف تام لدولاب العمل اليومي بل تغيير الخطط الإستراتيجية ربما بسبب تلك الجريمة أو هذا الحدث العارض .. تجد مؤشرات البورصة رهينة خبر هنا أو حدث هناك حيث تتأثر أعمالنا بشدة بأي جديد.

كان من العجيب جداً عدم تأثر الزملاء من الصينيين بتلك الأخبار مطلقاً فقد إستعد كلٌ منهم للطاريء الجديد بإنهاء ما تبقى من أعمال بحثية وتجارب بينما إستعد أغلبنا بتخزين الطعام و المياة والمنظفات!.

نعود للدعوة التي وصلتني للإنضمام لتلك المجموعة على تطبيق ويشات وقد تم تسميتها بالإنجليزية بإسم “Egyptian in Hubei” أو “المصريون في خوباي” حيث “خوباي” هي المقاطعة التي تقع ضمنها المدينة الأكبر فيها “ووهان” وكانت تلك المجموعة هي حلقة الوصل العامة بين المصريين هناك وبين مسئولي السفارة المصرية في بكين.

من اللحظة الأولى تستطيع أن تشعر بحالة من الذعر الشديد لأعضاء البعثات العلمية من المصريين بسبب الخوف من تفشي الفيروس -الغامض حتى تلك اللحظة- والذي يهدد حياتهم وحياة بعض أسرهم المقيمين معهم هناك، وفي نفس الوقت تشعر بحالة الهدوء الشديد والعقلانية والهدوء في الردود من جانب مسئولي السفارة المصرية في بكين والتي كان يمثلها في المجموعة معالى الأستاذ محمد قزوع والأستاذ محمد بهي وهما من أعظم وأنبل من تعاملنا معهم حيث تميزت نقاشاتهم بالقدرة على إمتصاص الغضب والقلق والخوف وتحويله إلى حالة طمأنة و شعور بالأمان بعيداً عن لغات الدبلوماسية المُقعرة المُركبة ..

كان الإثنان هما صوت مصر الواصل لنا على مدار ١٩ يوما متواصلة من التواصل على مدار اليوم لحل وتسخير جميع العقبات التي تقف أمامنا لتحقيق الهدف النهائي والأساسي أن يتم الحفاظ على جميع المصريين بخير وأمان حتى إعادتهم سالمين لأرض الوطن لحين إنتهاء الأزمة. كنا جميعاً نشعر بأن السفارة المصرية تعمل كخلية نحل لا تهدأ أبداً في محاولات لنجدة أبناء مصر في قلب الخطر في ووهان.

كانت دفة الأحداث بيد رجل عظيم دبلوماسي عبقري مخضرم .. معالي السفير الدكتور محمد البدري .. الرجل الذي كان يُمثل مصر الحاضرة التي لا تنسى ولا تفرط في أبنائها .. كانت تعليماته الدائمة ينقلها لنا رجاله الأعزاء بأن علينا أن نحتفظ بالهدوء ونحافظ على أنفسنا قبل كل شيء وأن مصر لن تنسانا أبداً وأن القيادة المصرية تعمل بأقصى ما لديها لنكون في أمان .. كانت المتابعة الدقيقة لنا في كل لحظة .. العمل فوراً على إنهاء أي أوراق تنقصنا .. تجديد الإقامات المنتهية .. إستخراج جوازات سفر بديلة أو تصاريح سفر .. الإطمئنان على توافر الأغذية والأدوية الكافية للجميع ..

كان الإهتمام بالغ جداً و على كل التفاصيل بدايةً من الجهود الدبلوماسية للسماح بفتح المجال الجوي ودخول طائرة الإجلاء المصرية وحتى الإطمئنان على توافر ألبان الرضاعة وحفاضات الأطفال وأدوية الضغط والصداع لمن يحتاج .. كنا نشعر بالقيمة الحقيقة بأنك تنتمي لوطن له أدواته وتأثيره وإمكانياته.
في ظل تلك الحالة من الإرتباك والقلق قام رجال السفارة بعمل حصر دقيق لكل أبناء الجالية المصرية في ووهان .. حصر

يشمل الحالة الصحية والنفسية وبيانات العمل وعدد أفراد الأسرة المرافقة وأعمارهم وموقفهم الحالي وموعد إنتهاء إقامتهم ثم حصر بالراغبين في العودة والراغبين في البقاء والأسباب وكل تفصيلة تجعل من المهمة ناجحة تماماً دون أي عائق أو مانع ، ظل هذا التواصل على مدار الساعة وكأن مصر قد حضرت إلينا في ووهان لتحتضن أبناءها وتخبرهم أن الأمور ستصبح على مايرام.
كان د. البدري يتابع بنفسه من غرفة عمليات السفارة التنسيق الدبلوماسي بين مصر والإدارة الصينية على أعلى المستويات وفي نفس الوقت يتواصل تليفونياً معنا بشكل شخصي لبث الهدوء و الإطمئنان والأمل بشكل مستمر ..

اتصل بي سعادته أربع مرات آخرها في الطائرة واتصل بشكل مستمر بالكثيريين من زملائي من أعضاء البعثة حيث كان يطمئن علينا حتى اللحظة الأخيرة للإقلاع والعودة لأرض الوطن وفي كل مرة كان يبث رسائل الأمل والتفاؤل في عروقنا .. وكان يخبرنا أن التواصل من مصر على أعلى مستوى وأن الرئيس شخصياً يطمئن علينا وأنه يتابع يومياً حالنا و أوضاعنا ويوجه بأن تُسخر لنا كل الإمكانيات ..

ثم جاء اليوم السعيد .. أبلغنا الأستاذ محمد قزوع بأن على الجميع الإنتباه والإنصات جيداً للرسالة الصوتية القادمة .. كان الجميع حاضراً وكانت ضربات القلوب قد توقفت تقريباً في انتظار الرسالة .. فجأة وصلت الرسالة وصدح صوت مصر من خلال حنجرة السفير العظيم د. البدري وكانت الرسالة كالآتي :

“السلام عليكم جميعاً .. الرئيس عبدالفتاح السيسي أمر بإعادتكم جميعاً إلى أرض الوطن على نفقة الدولة .. مصر لا تنسى أبناءها .. تم وضع خطة متكاملة وسيتم إبلاغكم بيها فوراً .. أرجوكم كونوا متعاونين وحافظوا على السرية الكاملة لحين الإنتهاء من الخطة .. إستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”.

ضجت المجموعة بالهتافات بجملة ” تحيا مصر .. الله أكبر” وشعرنا جميعاً بقشعريرة قوية مع تسارع ضربات القلب من فرط السعادة .. تشعر بأن أرض الوطن قد طارت من أفريقيا وهي الآن في ووهان بالقرب منك .. ما أجملها من مشاعر الأمل وما أعظمها من أحاسيس النصر على الخوف والقلق.

قام رجال السفارة المصرية في بكين بتنفيذ أكبر عملية إجلاء لرعايا مصريين في التاريخ المصري الحديث .. تكمن العبقرية في تنفيذ الخطة عن بُعد .. حيث تم تحديد قادة المجموعات الرئيسية وقادة المجموعات الصغيرة الفرعية وتم التنسيق وتيسير توفير الحافلات المجهزة مع حكومة المقاطعة ..

كانت كل صغيرة وكبيرة على الأرض تراها غرفة عمليات السفارة في بكين .. تحركت المجموعات الصغيرة للإلتقاء في نقاط منفصلة ثم التجمع في نقاط تمركز الحافلات المجهزة التي تحركت في أوقات مختلفة ومحاور مختلفة داخل المدينة واكتملت عبقرية الخطة بالتجمع عند معبر الدخول لمطار ووهان في نفس التوقيت بالضبط حيث كان الإتصال على أعلى مستوى مع سلطات تأمين المطار الذين سمحوا للحافلات بالعبور في أسرع وقت ممكن .. كانت التعليمات مستمرة بضرورة إتخاذ الإجراءات الوقائية الدائمة طوال الوقت وضرورة التعاون والعمل على إنجاح المهمه.

الطريق للمطار كان مخيفاً .. حيث كان وقت الغروب والشَفَق يملأ السماء بلونه الأحمر .. المدينة صامتة مظلمة حزينة .. بعض المباني إستضاءت بالعبارة الصينية الشهيرة “武汉加油” وتعني “تشجعي يا ووهان” .. كان قلوبنا حزينة على مغادرتنا ووهان المدينة الرائعة وهي في ثوبها الحزين تشعر بالخطر من ذلك الوباء اللعين .. لكننا كنا على وعد بالعودة سريعاً بعد إنتهاء الأزمة.
كانت الإجراءات في داخل مطار ووهان منذ لحظة دخولنا المطار وحتى ركوب الطائرة المصرية في منتهى الصرامة والدقة .. استمر الفحص الأمني والطبي للجميع لما يزيد عن عشر ساعات كاملة .. بعدها توجهنا للطائرة التي كانت تنتظر في المطار لإعادتنا لأرض الوطن ..

على باب الطائرة كانت هناك مجموعة من الأطباء المصريين في إنتظارنا على باب الطائرة حيث بدأت رحلة الرعاية الصحية المصرية لنا والتي ستستمر لأسبوعين بعد وصولنا .. قام أطباء الوقاية والرعاية الطبية بإبدال كماماتنا بأخرى خاصة لمثل تلك الحالات وتطبيق إجراءات طبية وقائية على الجميع على باب الطائرة وبعدها بدأت رحلتنا الطويلة إلى مطار العلمين الدولي بمطروح ..

في مطروح تم استضافتنا في فندق المشير أحمد بدوي لمدة أسبوعين تم خلالها تقديم الرعاية الصحية الكاملة لنا وتسخير كافة الإمكانيات للحفاظ علينا صحياً وغذائياً في فترة الحجر الصحي .. كان الحجر الصحي وقتاً جميلاً للإسترخاء بعد أيام من القلق والخوف المتلازم .. والحمد لله أن نجحت كل الجهود في تحقيق الهدف بإعادتنا سالمين إلى بيوتنا وعائلاتنا.

مصر لا تنسى أبناءها .. لن يشعر بذلك إلا من مر بظروف مشابهة .. إن الوطن العظيم الذي يستحق الفداء هو الوطن الذي تجده وقتما تحتاجه .. هو الوطن الذي تشعر بقيمتك فيه حتى وأن بعيداً عنه .. مصر التي سَخَّرت كل إمكانياتها لأجل أبنائها في لحظة من أخطر لحظات التاريخ تستحق أن نفديها بالروح والدم والعمر كله.

فلذات أكبادك يا مصر .. خيرة شباب الوطن .. الآن في أمان .. مصر التي حافظت على أبنائها في أخطر الأزمات هي في الحقيقة حافظت على مستقبلها .. على عقولها النيرة التي ستصنع بالعلم مستقبلاً أكثر إشراقاً و إزدهاراً .. حفظك الله يا مصر.

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى