الأخبارحوارات و مقالاتمصر

د منيرة الفاتح تكتب: المنسيون في قلبي

أستاذ في مركز البحوث الزراعية – مصر

ساقني القدر الأيام الماضية أن طلب مني صحفي شاب كفيف البصر أن أكتب له خطابا هالني ما ورد فيه وقررت أن أكتب هذه السطور حتى دون أن يدري، حيث كان يطلب في خطابه هذا تمكينه من التعيين بإحدى إصدارات الدولة الصحفية طبقا لنسبة الـ  5% المقررة في قانون الأشخاص ذوي الاعاقة رقم 10 لسنة 2018م، حتى يتمكن من مواصلة عمله الصحفي الذى يعتمد عليه بشكل كامل كمصدر رئيسي ووحيد للدخل.

ومصدر الألم الذي جرت له دموعي وهو يملي عليا خطابه، هو أن صاحب هذا الطلب كان هو أول كفيف في مصر يتمسك بحقه في الالتحاق بكلية الاعلام  بل ويصر على حقه هذا حتى شكلت لجنة لأول مرة في تاريخ مصر عام 1991 لدراسة مدى إمكانية قبول طالب كفيف بكلية الاعلام وأثبت جدارته أمامها حتى نال مراده بل وتفوق طوال سنوات الدراسة على أقرانه المبصرين حتى تخرج فيها وهو حائز على المرتبة الأولى كأول بنين  كلية الأعلام قسم صحافة بجامعة القاهرة مما اهله لنيل جائزة مصطفى أمين وعلى أمين للصحافة، وليس هذا فحسب  بل كلل مشواره المهني  بعد سنوات طوال في بلاط صاحبة الجلالة بنيل جائزة المركز الأول في كتابة المقال الصحفي بمسابقة نقابة الصحفيين “للتميز الصحفي ” لعام 2019 ليثبت للجميع أنها لم تكن امنية عابرة ولم يكن تكريما كتبه القدر له ذات مرة.

وتشهد على ذلك سيرته الذاتية وما تحويه من كتب ومقالات وتحقيقات صحفية تؤكد أنه بالفعل صحفي من طراز فريد وقع في عشق صاحبة الجلالة وما كان لها أن تنساه حتى وقتنا هذا، أننتظر حتى يصل به الحال الى طلب اعانة بطالة كمستحق لها أيضا وفق القانون؟!.

هذه الواقعة على قدر ما آلمتني فهي أيضا دفعتني لكتابة هذا المقال من  أجل ما يزيد عن 12 مليون من ذوي الإعاقة في مصر و الذين بالفعل لم ينساهم السيد الرئيس بل نستهم بعض الجهات التنفيذية وأسقطتهم من حساباتها فظلوا الى يومنا هذا في متاهة البحث عن حقوقهم الضائعة بين قلوب وعقول لم تعي التوجيهات المتكررة للسيد الرئيس عبد الفتاح السيسي بشأن حقوق المواطنين من الأشخاص ذوي الإعاقة والتي كفلها لهم من خلال قانون الأشخاص ذوي الاعاقة رقم 10 لسنة 2018م ، تلك الحقوق التي يؤكد عليها سيادته في كل لقاء أو فاعلية تهتم بقضايا ذوي الإعاقة ويستمع اليهم بنفسه ويرسخ لبرامج دمجهم بشكل حقيقي في المجتمع بعد سنوات عانوها من التهميش في ظل حكومات سابقة.

نعم، مازالت هناك تحديات أخرى تقف حجر عثرة في حياتهم وتحتاج منا وقفة قوية حتى نتخطاها معهم، فبرغم أن السيد الرئيس يطالب دوما بوضع قضايا ذوي الاعاقة على صدارة أجندة الدولة المصرية لكن الى الآن لا نجد صدى يعادل هذه الرسائل في كثير من مؤسسات الدولة الحيوية.

والشاهد على هذا أنه الى الآن لم نشاهد من خلال أية وسيلة اعلامية سواء أكانت اعلاما فضائيا أو الكترونيا أو ورقيا أية إرشادات مترجمة للغة الإشارة لتوعية الأشخاص من ذوي الإعاقة السمعية عما يتعلق بوباء الكورونا بداية من التعريف به وبأعراضه والاجراءات الوقائية والاحترازية لتقليل خطر إصابتهم به وصولا الى مواعيد وأماكن ونوعية الجرعات المختلفة التي ستحصنهم ضد مخاطره ومواعيد الحظر والاغلاق التي كانت تفرض في بدايات ظهور هذا الوباء.

ونفس النسيان طال ايضا فاقدي نعمة البصر فلم نجد حملة توعية تشملهم وتشمل المرافقين المصاحبين لهم في تحركاتهم خصوصا أن ملازمتهم للأشخاص المرافقين لهم في كل تحركاتهم وملامستهم للأشياء في محيطهم اعتمادا على حاسة اللمس كدليل لهم في حياتهم يعرضهم للعدوى بشكل أكبر يفوق نسبة تعرض أي شخص آخر ينعم بنعمة البصر مما قد يجعلهم ايضا أكثر الفئات احتياجا للتغيب عن العمل أوقات انتشار العدوى.

ولأن اللغة هي عامل أساسي في التواصل بين البشر فأدنى حقوق ذوي الإعاقة ان يجدوا من يفهم لغتهم حتى يحدث الدمج الحقيقي لهم وتختفي أزمة البحث عمن يفهم لغتهم حتى يتمكنوا من عرض متطلباتهم ونيل كامل حقوقهم.

نعم هناك اجتهادات لبعض الأفراد وقليل من مؤسسات المجتمع المدني لمحاولة خدمة هذه الفئة، لكن هذه المحاولات تفتقر الى الإمكانيات الداعمة لرسالتها الهامة سواء أكانت إمكانيات مادية أو بشرية وفي مجملها هي محاولات قليلة ومبعثرة ولا يوجد بينها تكامل يحقق الغاية المنشودة ولا تخضع لرقابة المحتوى بشكل كاف.

لذا أقترح أن تتبنى الدولة المصرية إقامة منصة الكترونية حكومية رسمية تعمل في إطار مؤسسي محترف بالتعاون مع من لديهم الخبرة الحقيقة من افراد ومؤسسات المجتمع المدني كدليل هام يمتلك الخبرة الجيدة بقضايا ذوي الاعاقة.

على أن تقوم هذه المنصة الالكترونية الحكومية بتقديم كافة الخدمات والارشادات التي تلبي احتياجات جميع فئات ذوي الإعاقة بمختلف حالاتها وتحقق تفاعلا حقيقا مع قضاياهم المختلفة.

ودعما لهذه الخطوة أتمنى أن يتم انشاء مؤسسة تعليمية حكومية تعمل على تخريج كوادر ذوي خبرة حقيقية في استخدام لغة الإشارة حتى لا يحتاج أي من ذوي الاعاقة السمعية الى دفع مقابل مادي عن كل كلمة يريد أن يتحدث بها.

وبرغم أن جرائم الابتزاز الالكتروني بدت تدق ناقوس الخطر كل يوم الا ان أحدا لم يلتفت لخطرها الأكبر على حياة ذوي الاعاقة السمعية الذين يعتمدون استخدام محادثات الفيديو بشكل أساسي كوسيلة للتواصل عن بعد فيما بينهم مما يزيد من خطر تعرض الفتيات من ذوي الإعاقة السمعية لهذه الجرائم الالكترونية دونما أن تجد هذه الفئة من يرشدها بلغة الاشارة. وبرغم ذلك خرجت رسائل التوعية من كل الجهات المعنية دون أن تضع فئة فاقدي السمع في حساباتها ودون ان يرشدهم أحد عن وسائل الإبلاغ عن هذه الجرائم الى وقتنا هذا.

ولعل من أبشع حالات الاستغلال التي تتعرض لها فئة فاقدي حاسة السمع هو الاستغلال السياسي والديني كمدخل لتحقيق أغراض غير سوية تهدد مصالح الأشخاص والوطن خصوصا أن أصواتهم الانتخابية تجعلهم كتلة تصويتية لا يستهان بها ويترتب عليها مصالح الوطن، وليس أوضح مثال على ذلك أكثر من المواد الإعلامية التي عرضتها داعش عبر وسائل التواصل الاجتماعي داعية لأفكارها الإرهابية المتطرفة بلغة الإشارة.

ولرفع الوعي الوطني ، هناك أفلاما وثائقية تحكي تاريخ مصر وبطولاتها وتعزز الانتماء للوطن وقادرة على مواجهة هذا الاستغلال الذي يتعرض له بعض الأشخاص من ذوي الإعاقة ومنها  فيلم “العدوان الثلاثي بجزئيه” الذي تم عرضه منذ أيام أحد الأفلام الوثائقية التي تحكي فترة مهمة من حياة الوطن  بحرفية عالية في الإنتاج توجت بصوت الراوي الذي تمكن ببراعة من تجسيد روح النصر على الأعداء.

لكن هذا الفيلم واجه ثلاث تحديات حالت دون وصول الفيلم لبعض الفئات، أولى هذه التحديات هو عدم ترجمته الى لغة الإشارة ليصل الى فئة الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية وثاني هذه التحديات هو عدم وجود دبلجة باللغة العربية لحديث المؤرخين الأجانب عن تاريخ مصر العظيم، انما ظهرت الترجمة للغة العربية كنص مكتوب على الشاشة فعجز الكفيف غير بالملم باللغة الإنجليزية عن متابعة ما قاله المؤرخون الأجانب وصار حاله كحال الأمي الذي عجز هو أيضا عن قراءة الترجمة المكتوبة ليكون هذا هو التحدي الثالث الذي قابل هذا الفيلم التاريخي، وكل هذه تحديات مازال من السهل تداركها  لتتسع فرصة مشاهدته من جميع فئات أبناء الوطن على حد السواء.

كما أن مراكز عقد الدورات الحكومية هي مجالا رحبا يمكن استثماره بشكل جيد في عقد دورات متخصصة في الأمن القومي لذوي الإعاقة السمعية بحضور مترجمي لغة الإشارة فهذا سيعزز الفهم الصحيح لكثير من قضايا الوطن وحمايتهم من الوقوع كضحايا للمواقع الالكترونية المشبوهة.

أما عن قضية رفع الوعي الديني لذوي الإعاقة السمعية، فهم الى الآن منسيون بشكل كبير وهنا يبرز أهمية طرح هذا الملف على مؤسسات الدولة الدينية.

فبرغم أن كلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر الشريف تعتبر هي نافذة الجامعة على العالم كله، من خلال دراسة معظم لغات العالم بها للتواصل مع الغير بلغتهم، ومع ذلك الى الآن لا يوجد تخصص بكلية اللغات والترجمة يهتم بدراسة “لغة الإشارة “أو “لغة برايل” للتواصل مع ذوي الإعاقة داخل حدود الوطن أو خارجه.

فهناك احتياج فعلي لوجود كوادر أزهرية مبصرة تتقن “لغة برايل” قراءة وكتابة لتدارك الأخطاء الواردة في بعض نسخ القرآن الكريم المتاحة بلغة برايل والتي ترجع أحيانا الى الاستعانة بشخص كفيف يتقن لغة برايل بغض النظر عن تخصصه في علوم وأحكام القرآن الكريم وحتى لو كان المراجع كفيف البصر على قدر عال من التخصص فسيكون هذا مبني على الاستماع فقط مما قد يؤثر على طباعة نسخ القرآن الكريم بشكل متقن بلغة برايل في بعض الأحيان ناهيك عن قلة الكتب المعرفية التي يتم ترجمتها بلغة برايل.

كما أن بعض منصات نشر المعرفة لا تكون مهيئة من حيث التنسيق بشكل يمكن قراءتها للشخص الكفيف من خلال برامج القراءة التي يستعين بها.

أطرح ملف الثقافة الدينية بلغة الاشارة  ليس فقط على المستوى المحلي انما على المستوى العالمي أيضا من خلال التعاون مع مجلس حكماء المسلمين والروابط الإسلامية العالمية المختلفة التي يتعاون معها أزهرنا الشريف بصور عدة تهدف للتسامح العالمي وحقوق الإنسانية وأتمنى أن تشمل أجندة هذا  التعاون الأشخاص ذوي الإعاقة وإدراج لغة الإشارة في كل الإصدارات الدينية ما أمكن ودراسة فكرة اعداد كوادر أزهرية من دعاة ووعاظ وأهل للفتوى بلغة الإشارة، لتكون هذه الكوادر قادرة على الاستماع والتحدث بمهارة مع فئة “الصم والبكم” بلغتهم وتقدم لهم الاستشارات الدينية وترجمتها بشكل صحيح وتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم الدينية، بل السماح بالتحاقهم لدراسة العلوم الشرعية بلغة الاشارة مما سيدعم وجود دعاة ووعاظ من الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية يمكن الاستعانة بهم في  دار الإفتاء أو من  خلال وزارة الأوقاف في مختلف محافظات مصر مما يؤهل لفتح مراكز دينية تحتوي وتعلم المواطنين من ذوي الإعاقة لسمعية وتيسر عليهم الحياة الدينية دون تطرف وتشدد.

كما أرى عدم كفاية ذاك المربع الصغير في زاوية شاشة التلفاز المستخدم لترجمة لغة الإشارة أحيانا في خطبة الجمعة الأسبوعية أو بعض البرامج الدينية التي استعانت به مؤخرا، ليس فقط لأن صغر حجمه يجعله غير مريح للرؤية، انما هو أيضا لا يعد وسيلة للتواصل معهم انما هو وسيلة عرض وأرسال من طرف واحد دون آلية تتيح التفاعل والتواصل المباشر معهم لمناقشة قضاياهم الحياتية المختلفة وهو الحق الذي يملكه الجميع دون هذه الفئة من الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية.

وأضع هذا الملف أمام الاعلام المصري لإنتاج برامج موجهة وتفاعلية مع الأشخاص من ذوي الإعاقة السمعية لنراهم ضيوفا في استديوهات قنواتنا الفضائية، يناقشون بأنفسهم قضاياهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما أدعو اعلامنا الوطني للتعاون مع أزهرنا الشريف في تقديم برامج دينية لمختلف المراحل العمرية من خلال تواجد ذوي الإعاقة السمعية في وجود مترجمي لغة الإشارة المعتمدين وهنا أقترح انتاج برامج الأطفال وابتكار شخصيات كرتونية تتحدث بلغة الإشارة وهذا أحد أهم حقوق الأطفال ذوي الإعاقة علينا.

آمل أن تفتح الرؤى المطروحة في مقالي هذا ابوابا تسع جميع الأشخاص ذوي الإعاقة وتتيح دمجهم مع باقي فئات المجتمع تحت مظلة العدل والمساواة في الحقوق والواجبات.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى