الأخبارحوارات و مقالاتمصر

د خالد وصيف يكتب: أبوالبنات والبنك وإدارة مصلحة الميكانيكا

خبير مياه – مصر
شخصية تأثرت بمدرسة الري المصرية، وتحديدا في مصلحة الميكانيكا والكهرباء… دفعته أصوله القروية لتكون حياته طموحات بلا حدود وإنعكست هذه الأصول علي كل من إرتبط به بعلاقات عمل أو علاقات إجتماعية…

من هنا نبتدي الحكاية:

فى نهار احد ايام عام 2001… مجموعة من مندوبى شركة مواد غذائية شهيرة تهبط مدينة كوم حمادة لتبحث عن وكيل لتوزيع منتجاتها.

توجه المندوبون لأحد المحلات التى تم افتتاحها منذ فترة وجيزة وتحظى بسمعة طيبة حيث التقوا صاحب المحل.

رجل ستينى فارع الطول ممشوق القوام يرتدى جلبابا أبيض يبرز تحته «صديرى فلاحى مشغول»، ملامحه دقيقة ويتميز بوسامة ملحوظة فقدموا عرضا سخيا لصاحب المحل الذى فوجئ وسألهم فى دهشة عن سبب اختيارهم له.

أجاب أحدهم:

لانك صاحب اكبر محل للمواد الغذائية فى المدينة.

ابتسم الرجل وقال فى هدوء:

المعلومة غير صحيحة، لأن هناك الحاج فلان تجارته اكبر، وهناك اخرون… ثم اخذ يذكر اسماء ثلاثة تجار كبار فى المدينة اقترحهم على مندوبى الشركة واخذ يعدد مزاياهم.
اندهش المندوبون من صراحة الرجل ومن تحريه الصدق وقرروا اختياره دون غيره، عقدوا معه اتفاق الوكالة الذى مثل نقلة نوعية فى حياته وحياة ابنائه الثلاثة… احمد ومحمد ومحمود..الذى اسماهم تيمنا باسماء النبى عليه الصلاة السلام..

توسعت تجارة الرجل لكنه ظل ملتزما باسلوب حياته كما هو، منذ كان تاجرا صغيرا للبقالة فى قريته كفر بولين المجاورة لمدينة كوم حمادة، الاستيقاظ المبكر والعمل الدؤوب والجلباب البلدى.

شعاره الدائم الاخلاص الذى اتخذه اسما لشركته الجديدة، التى توسعت لتشمل تجارة وتعبئة السكر فى اكياس وزن الواحد كيلو جرام.

ومع التقدم فى العمر تخفف من اعباء العمل الذى انتقل لاولاده، لكنه ظل حريصا على مراقبة عملية تعبئة الاكياس يوميا، واعادة الوزن لضمان عدم وقوع نقص فى الكيلو الواحد، كان يخشى الوقوع تحت طائلة التطفيف فى الميزان.
مع الابن الثانى محمد الذى تربى مثل اشقائه على البنك. وهو يفخر بتلك التربية التى اكسبته خبرات التعامل مع الناس ومنحته قدرا من الفراسة.

فـ«البنك» فى محلات البقالة هو اللوح الخشبى الذى يفصل ما بين البائع والمشترى، والذى تطور لاحقا ليصبح من الرخام. على هذا البنك يقف الزبون، ومن مطالعة الوجه يعرف محمد ما اذا كان الزبون جادا فى الشراء ام قادم للسؤال فقط، وما اذا كان سيشترى نقدا ام بالاجل (على النوتة). بل ويعرف هل هو اول محل يدخله للشراء، ام قادم للبحث عن سلعة شحيحة..

ومع خبرات التجارة تأتى موهبة الفك والتركيب. اول ساعة اقتناها واول دراجة اشتراها له والده تم فكهما بالكامل واعادة تركيبهما وهو مازال فى المرحلة الاعدادية. اشارة كانت كافية لتفضيل دراسة الهندسة بجامعة بورسعيد، والقسم الميكانيكى على وجه الخصوص.
تخرج محمد محمد عبد العاطى مهندسا ليعمل فى احدى شركات استصلاح الاراضى فى شرق الدلتا، ثم يلتحق بالعمل فى مصلحة الميكانيكا والكهرباء في محطات الثوره ليتدرج فى سلكه الوظيفى مديرا لادارة محطات مريوط.

وانتقل باسرته الصغيرة ليقيم اقامة دائمة بمنطقة الثورة حتى يكون قريبا من المحطات ومتابعا لتشغيلها.

ومضت الايام بابو البنات الاربعة هادئة الا من اختبار شديد الوطئة، كان تأثيره عميقا على المهندس محمد واسرته الصغيرة التى فقدت أصغر زهراتها بعد معاناة استغرقت سنوات، تحملها صابرا محتسبا راضيا بقضاء الله وقدره. وكان الترياق الذى لجأ اليه هو الانتقال لمكان جديد وخبرات جديدة.
سافر للعمل بالمملكة العربية السعودية ليمضى هناك اربع سنوات اكتسب خلالها خبرات جديدة فى مجال محطات وشبكات المياه والصرف الصحى، ثم يعود ليصبح مديرا عاما لبلقاس ثم رئيسا للادارة المركزية لشمال غرب الدلتا ثم رئيسا للادارة المركزية لوسط الدلتا.
وفى مارس من العام 2018 تقرر حضوره دورة تثبيت لدرجة مدير عام طبقا لاقدميته الطبيعية، انتهى اسبوع الدورة مساء الخميس وقفل عائدا الى بلدته بكوم حمادة، يستعد لتمضية يوم الجمعة مع الاسرة، ثم يسافر كعادته فجر السبت لمنطقة وسط الدلتا.

يدق هاتفه من رقم ارضى ليتلقى تهنئة بتكليفه رئيسا لمصلحة الميكانيكا والكهرباء. منصب رفيع لم يسع هو اليه، ولم يكن فى اقصى احلامه ان يشغله، فقط كان مهتما بانهاء عمرات محطات منطقة وسط الدلتا حتى تكون جاهزة للتشغيل والحفاظ على جاهزيتها للطوارئ، سعى المنصب اليه تقديرا لاجتهاد سنوات طويلة من العمل الدائب، ونظافة يد مشهودة، وخبرة ادارية اكتسبها من بنك محل البقالة..
خلال اربع سنوات تحققت انجازات عديدة، اهمها إنتهاء العمل فى المحطات التى شهدت عقود تنفيذها تأخيرا، مثل محطات الطويسة وبلانة الغرق السلطانى ودير السنقورية وبنى صالح وطابية العبد بالإضافة إلي درة مساهمات المصلحة المتمثلة فى محطات بحر البقر وشادر عزام لنقل 5.6 مليون ومتابعة مشروع محور الحمام والضبعة لنقل 7.5 مليون متر مكعب فى اليوم بعد معالجتها لاستصلاح 2 مليون فدان..والانتهاء من محطات البطس وسيدمنت وفارسكور والمراشدة الجديدة والسلسة الجديدة، وايضا محطات الخيرى وتروجا وشريشرا والدشودى..
كما يعتز المهندس محمد بدور المصلحة فى تقليص عمليات استيراد قطع الغيار، من خلال الاعتماد على البديل المحلى الذى لا يقل جودة. اعمال كبيرة لا ينسبها المهندس محمد لنفسه بل لكل العاملين بمصلحة الميكانيكا من اصغر عامل الى اكبر مهندس. تروس فى آلة ضخمة لن تدور وتنتج الا بتناسق وتوافق بين مكوناتها..
تنتهى الخدمة الرسمية للمهندس محمد محمد عبد العاطى خلال ساعات، طبقا لقانون الخدمة المدنية. لكنه مستمر فى التواجد طبقا لقانون العطاء والاخلاص، ابن من ابناء مدرسة الرى المصرية العريقة وترس فى آلة الميكانيكا والكهرباء. وجندى من جنود العمل المدنى فى مصر. وهو ابو البنات وابن بنك البقالة وخبير الفك والتركيب. ونتمنى له كل التوفيق والسداد فى حياته المقبلة، التى ستظل مشحونة بالعمل والجهد كما عهدناه دائما..

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى