الأخباربحوث ومنظماتحوارات و مقالات

د خالد وصيف يكتب: المرشد  يلحق بالديناصور

 

خبير موارد مائية

لأول وهلة ظننته خطأ رقمى من الوارد وقوعه اثناء حديث تليفزيونى طويل. قمت باجراء اتصال باحد الصحفيين النابهين والمهتمين بملف الزراعة والمياه. اعدت عليه ما سمعته فأكد صحة المعلومة، بل وزاد عليها ما اثر قلقى وحيرتى.

أصغر موظف بقطاع الارشاد الزراعى فى مصر يبلغ الان من العمر 56 عاما، وسنحتفل معا بانقراض تلك المهنة خلال اربع سنوات. بعد ان يحال للتقاعد طبقا للقانون. ليس احتفالا طبعا لكنه حزن عميق على انقراض وسيلة قوية فعالة للتواصل مع المزراعين فى مصر

فى عام 1990 التحقت بالعمل فى مشروع تطوير الرى بالاراضى القديمة بشرق الدلتا، ولان جزء كبير من نجاح المشروع كان يعتمد على اقناع المزارع بالفوائد المتوقعة منه، بعد اقتناع المزارع بقوم بالتوقيع مع زملائه على اقرار بقبولهم تنفيذ المشروع فى المجرى المائى الخاص بهم.

كان هناك اهتمام كبير من المسؤولين باعداد وتدريب المهندسين لاكسابهم مهارات الاتصال واقناع المزارعين، فضلا عن باقى “الكورسات الفنية” التخصصية اللازمة، ذهبنا الى دورات تدريبية بالولايات المتحدة، وزيارات حقلية لباكستان والمكسيك والفلبين، وهى كلها دول تطبق نفس المشروع.

بعد العودة رتبت لاجتماع موسع مع مجموعة كبيرة من المزارعين باحدى قرى مركز ابوحماد، واجتمع الناس فى “المضيفة” الموجودة بالقرية وبدأت استخدام كل المهارات التى تعلمتها فى الجامعة وخلال الدورات التدريبية فى الخارج. كانت المفاجأة رفض تام لقبول فكرة التطوير من أساسه.

فى اليوم التالى حكيت للمدير ما حدث فضغط على جرس الباب وطلب استدعاء احد المشرفين الفنيين المخضرمين بالمشروع، تعال يا عبد المحسن، ناداه المدير فأقبل مسرعا، رجل فى منتصف الاربعينيات حاصل على مؤهل متوسط ويمتلك قطعة ارض صغيرة فى قريته التى يمتلك بيتا فيها هو واولاده ووالدته العجوز.

امره المدير بالتوجه بسرعة للمزارعين واقناعهم حتى لايتعطل مقاول الاعمال عن البدء فى التنفيذ، اخذ المشرف دراجته البخارية وانطلق الى القرية وعاد فى اليوم التالى بالموافقة. اندهشت من قدرة الرجل على الاقناع وسألته: كيف فعلتها؟ قال: ياباشمهندس لاتخاطب المزارعين فى مجموعات كبيرة او لقاءات رسمية لان اعتراض فلاح واحد فقط كفيل بنقل عدوى الرفض للجميع.

هناك شخصيات مؤثرة فى القرية لا يزيدوا عن اربع او خمس، هم مفاتيح لقلوب الناس بدونهم لن يستمعوا للغرباء عن البلدة وخصوصا من الجهاز الحكومى الذى لا يثقوا به، هؤلاء هم الذين ذهبت اليهم ولما اقتنعوا بالفكرة كان سهلا على باقى المزارعين ان يوافقوا ويضعوا توقيعهم ايضا.

كان هذا هو الدرس الاول والاهم خلال عملى المهنى مع المزارعين، اهم من دورات التدريب الخارجية وشهادة الجامعة، البحث عن المفتاح اقل كلفة واكثر فائدة وفعالية من كسر الباب

هناك وسائل تواصل متعددة يعرفها خبراء الاعلام، التليفزيون من اشهرها لكنه اكثرها كلفة، من خلال اعلانات ترويج لسلعة او تنبيه لخطر او ارشاد بمعلومة، لكنه يفتقد للتفاعل بين المرسل والمستقبل، اتجاه واحد من الشاشة الى عقل المشاهد ينتهى بانتهاء مدة الاعلان او بقيام المشاهد بتغيير القناة بلمسة على جهاز الريموت.

على الجانب الآخر هناك وسائل التواصل الاجتماعى الحديثة مثل مواقع الفيس بوك واليوتيوب وهى وسائل شديدة الكفاءة والرخص ايضا فى نشر المعلومات، لكنها تعانى من مشكلتين: الاهتمام بها مقصور على شريحة الشباب المتعلمين وليس المزارعين، والمشكلة الثانية انها تعانى من ضعف المصداقية لدى مستخدميها.

يظل الاتصال المباشر والتقاء الوجه بالوجه ومتابعة حركة الجسد هى الوسيلة الانجع للوصول الى قلوب المزارعين. وحده المرشد الزراعى (والمائى ايضا) الذى يمتلك تلك المصداقية والفعالية. هو مثل قوات المشاة التى تتقدم للامام وتضع يدها فعليا على الارض بينما تظل باقى وسائل الاتصال هى قوات جوية، طائرات تتعامل من ارتفاعات شاهقة، تلقى قذائف قد تصيب وقد تخيب.

من عام 1990 الى 2018 جرت فى النهر مياه اقل (ليست كثيرة كما يقول المثل) واصبحنا امام تحديات هائلة يواجهها قطاع الزراعة والمياه فى مصر، تحديات كلها تتطلب وعيا ويقظة من المزارع، وتتطلب تفهما ودراية بما يجرى حوله حتى يستطيع تكييف ظروفه على تلك الاوضاع الجديدة. تقليص للمساحات المنزرعة ارزا وتغليظ للعقوبات المتوقعة على المخالفين للقرار.

تعديات مستمرة على المجارى المائية بلغت ثلاثة اضعاف معدلاتها منذ عشر سنوات، التصاق الكتل السكنية بالمجارى المائية وبالتالى القاء ملوثات متنوعة فى المياه مما يمثل مزيدا من الاهدار للمياه. هذه التحديات تحتاج الى تطبيق صارم للقانون ومع تطبيق القانون او قبله لابد من اقناع المزارعين بتلك الاجراءات، فلن تستطيع الدولة ان تخصص شرطيا لكل مواطن وضابطا لكل مزارع

هناك استراتيجية مائية واخرى زراعية حتى عام 2030، الاسترتيجيتان تعتمدان على مفهوم جديد معنى برفع كفاءة العائد الاقتصادى من نقطة المياه، والعائد لن يرتفع الا من خدمة ارشاد متميزة  ذات كفاءة تجيب على اسئلة منطقية لدى المزارع: ما هو المحصول البديل للارز ويعطينى نفس الدخل النقدى او اكثر؟ ما الذى يدفعنى للتخلص من محصول قصب السكر الذى ازرعه منذ سنوات طوال واتجه لمحصول بديل؟

كيف اسوق محصولى فى نهاية الموسم بينما اقع فريسة وسطاء يحصلوا عليه بثمن بخس ويتحكموا فى اسعاره بما يزيد من ارباحهم المهولة على حسابى؟ تلك بعض الاسئلة المعلقة فى الهواء وتنتظر اجابات مقنعة، ليس من خلال الحملات الاعلامية (التى يجب ان تستمر ولكن بموازاة تواصل شخصى مباشر من المرشدين الزراعيين والمائيين)، جلسة على رأس الارض بجوار حافة الترعة تضم المشرف الزراعى والمزارعين، يتناولوا الشاى معا، وربما يدخنوا الشيشة معا، لتنفك كل العقد فى ساعة عصارى

نعلم جميعا الترهل الذى يعانى منه الهيكل الوظيفى فى مصر، والزيادة الكبيرة فى اغلب شاغلى الوظائف الادارية، لكن هناك وظائف فنية شديدة التخصص وتحتاج لسنوات لاكتساب مهاراتها، هذه الوظائف يجب ان تحظى بعناية خاصة تحفظ لها اداء دورها الذى سيتزايد فى المستقبل القريب، ومن اهمها المرشد الزراعى الذى يتعامل مع المزارعين.

يضم قطاع الارشاد الزراعى حاليا ثلاثة آلاف مهندس وفنى، اذا كان اصغرهم فى السادسة والخمسين، فهذا يعنى اننا خلال اربع سنوات فقط، سنخسر كل الخبرات التى راكموها على مدار عمل كل واحد والذى يقترب من ثلاثين عاما فى المتوسط. خسارة هائلة لخبرة عملية لن نجدها فى الكتب او اروقة المحاضرات، دعم المرشد الزراعى وتدريبه واعداده هو دعم للمزارع المصرى لا يقل اهمية عن دعم الاسمدة والبذور والمحاصيل، وهو ضمان لنجاح كل استراتيجيات الزراعة والمياه.

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى