الأخبارالمياهبحوث ومنظماتحوارات و مقالاتمشروعات الريمصر

د خالد وصيف يكتب: قناع الدكتورة فاطمة عبدالرحمن

في منتصف التسعينيات كنت اعمل في مشروع معنى باشراك المرأة في إدارة المياه، وقررت حينها ان اكتب مسرحية تشجع السيدات على تلك المشاركة من خلال سيدة توفى زوجها وتدير ارضها بنفسها، وتقرر ان تترشح لرئاسة رابطة مستخدمي المياه، وفى نفس الوقت قرر عمدة القرية ترشيح نفسه وهو يشعر ان المنصب مضمون له، فهو يمتلك مساحة واسعة من الأراضي بعكس السيدة الفقيرة، ثم هو رجل وسيضمن أصوات الرجال المزارعين وهم الأغلبية في القرية.

انتهت المسرحية بفوز السيدة في الانتخابات بعد ان اقتنع ببرنامجها الفلاحون الذين كانوا يملكون وعيا راقيا، فاختاروا من تستطيع ان تمثلهم وتعبر عن احتياجاتهم. كانت المسرحية اسمها “فاطمة رئيسة الرابطة” وتم تقديمها من خلال الفلاحين أنفسهم في مناطق المشروع المختلفة.

لم يسأل أحد وقتها عن سر اختيار اسم “فاطمة” لأعبر به عن تلك السيدة الشجاعة التي تحدت عمدة القرية وهزمته في الانتخابات، ولم يعرف كثيرون إنني استلهمت الاسم من الدكتورة فاطمة عبد الرحمن رئيس قطاع المياه الجوفية في ذلك الوقت.

قبلها بسنة واحدة انعقدت ورشة عمل لمناقشة مشروع من مشروعات الوزارة، اقترب منى زميل وهمس لي: خد بالك وانت بتعرض الشغل، الدكتورة فاطمة موجودة. واشار برأسه الى أحد الأركان. ذهب نظري الى حيث أشار. هذه هي اذن من سمعت عنها قبل ان اراها.
من اين لها تلك القوة والهيبة وهي كما تبدو قصيرة القامة نحيفة الوزن صوتها ضعيف له بحة مميزة.
بدأت العروض طبقا لأقدمية المتحدثين وظللت اتابعها من بعيد، وهي تطلق تعليقات قاسية كأنها طلقات رصاص، لم تكن تبالى بمنصب المتحدث لكنها كانت تركز مجهودها في رفض الفكرة المطروحة.
كانت مسلحة بعلم غزير وخبرة عملية عميقة مكنتها من التعبير عن رأيها بكلمات قوية. ثم أدهشتني وهي تنبه السيد الوزير عندئذ انه جاء متأخرا ربع ساعة عن افتتاح الورشة.

تمثل الدكتورة فاطمة عبد الرحمن لجيلي الذى التحق بالعمل في وزارة الموارد المائية والري في أوائل التسعينيات رمزا لأشياء كثيرة أهمها روح التحدى التي تحلت بها.
عاشت حياتها فى سباق حواجز كلما تجاوزت واحدا وجدت حاجز جديد امامها. تحدت حاجز دراسة الهندسة فى الستينيات، فضل والدها دراسة الطب واصرت هي على الهندسة، حينها كانت هندسة القاهرة وبالذات تخصص الري الذى يفضل دراسته الذكور. لكنها أصرت على دراسة الهندسة وتفوقت فيها. تخرجت والتحقت بالعمل في وزارة الاشغال وتحدت عزوف المهندسين على العمل الميداني وتفضيلهم للعمل المكتبي، خصوصا السيدات، فتخصصت في المياه الجوفية، وأخذت تجوب صحاري مصر من شمالها لجنوبها، تنافس زملائها الرجال وتمتلك من الشجاعة لتواجه حيوانات الصحراء وحشراتها وهى تقيم في معسكرات بدائية فى صبر وجلد، وتحدت دراستها للدكتوراة التي تعطلت بسبب انشغال المشرفين عليها، لتحصل عليها فى النهاية ويخسر الكثير رهانهم على تركها الرسالة مللا أو رهقا.

عبر سنوات اقتربت من نصف قرن، أقامت لها اسما رصينا فى تخصص نادر أصبحت هي أحد مراجعه المعدودة في المنطقة العربية، هي من بدأت وضع الخريطة الهيدرولوجية للمياه الجوفية في مصر، وهي من وضعت أساس حماية المياه الجوفية من التلوث عبر شبكة رصد تغطى صحاري مصر.
على يديها ولد أول قطاع لإدارة وتشغيل المياه الجوفية في وزارة الموارد المائية وتضع به جسرا يصل ما بين الدراسة الاكاديمية والعمل التنفيذي.
استعانت بها العراق وليبيا واليمن فى دراسة خزاناتها الجوفية ومدى الاستفادة منها، كما أسست لنفسها مدرسة ترتبط باسمها وشخصيتها القوية التي كانت تمتلك القدرة على الموافقة على ما تراه صوابا، كما كانت تمتلك شجاعة التصريح بلا قوية في مواجهة ما تراه خطأ

كانت ترى نفسها الحارس الأمين على المياه الجوفية في مصر، لا تقبل ان يتناول الموضوع غير متخصص، دخلت معارك طويلة للدفاع عما تراه صوابا، منها معركة عنيفة مع الدكتور يوسف والى حينما كان على قمة العمل السياسي والتنفيذي في مصر، ومضت الأيام وترك والى مواقعه وانسحبت الدكتورة فاطمة في هدوء من العمل التنفيذي، ثم يواجه الدكتور والى سؤالا عن ذكرياته عمن عمل معهم خلال فترة توليه وزارة الزارعة، فيذكر بكل تقدير الدكتورة فاطمة عبد الرحمن.

بجسدها الضئيل وصوتها الضعيف احتاجت الدكتورة فاطمة لقناع تتعامل به مع من حولها، قناع يرسم لها شخصية المقاتل القاسي أحيانا والمتحدي غالبا حتى تستطيع التعامل مع مجتمع ذكوري يراها منافسة شرسة له في مجالها، بينما الحقيقة ان تحت هذا القناع شخصية شديدة الرقة والرحمة، ساعدت تلاميذها على الالتحاق بمواقع مرموقة، هناك من عمل في جامعة الدول العربية، وهناك من التحق بمنظمات دولية، وهناك من تولى مواقع هامة داخل الوزارة، كلها جاءت بشفاعة منها لشخصيات مجتهدة رأت هي من واجبها ان تمد لهم يد العون. وبينما تسبب مشرفها على الدكتوراة في تأخير حصولها عليها، كانت هي تساعد الباحثين على انجاز رسائلهم، وتقطع اجازتها السنوية لتحضر اجتماع لجنة الترقيات حتى لا يتأخر حصولهم على الدرجة.

حينما داهمها المرض منذ سنوات، آثرت الابتعاد عن التجمعات التي اعتادت عليها، لم تستجب لإلحاح كثيرين في الالتقاء بها مكتفية بالاتصال التليفوني، كانت حريصة الا يراها احد وهى شاحبة وآثار المرض بادية عليها، وارادت ان نحتفظ لها بصورتها كما ارادت لها ان تظل في اذهان اصدقائها وتلاميذها: فاطمة القوية المتحدية الشجاعة التي تستطيع ان تقول لا دائما..

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى