الأخبارحوارات و مقالات

د خالد وصيف يكتب:الانسان… «عبد الهادى راضى»

كان يعتقد ان مفتاح نجاح اى مشروع يكمن فيمن يديره ويشرف عليه، مهما كانت الامكانيات بسيطة

خبير موارد مائية – مصر

بعد 24 عاما على وفاته، مازال الدكتور عبد الهادى راضى يشغل مساحة واسعة فى قلوب كل من عمل معه او اقترب منه، حياته القصيرة بمعيار عدد السنين، والعميقة بما تركته من اثار واعمال مازالت باقية وتشهد له. شغل منصب الوزير اقل من ثلاث سنوات قبل ان يتوفى فى السادسة والخمسين من عمره.

مفتاح شخصية عبد الهادى راضى هو فى انسانيته العميقة وتقديمه للعنصر البشرى عما سواه. فقد كان انسانا راقيا فى تعاملاته وكان يعتقد ان مفتاح نجاح اى مشروع يكمن فيمن يديره ويشرف عليه، مهما كانت الامكانيات بسيطة. الدكتور عبد الهادى له من اسمه نصيب كبير فهو هادئ النفس وراض بكل مايأتى به القدر خيره وشره. هو ابن قرية ساحل الجوابر بمحافظة المنوفية المولود فى عام 1939.

تخرج من هندسة عين شمس عام 1962 وحصل على درجة الماجستير من هندسة القاهرة ثم الدكتوراة فى هندسة السدود من بولندا فى عام 1977. وله اكثر من مائة وخمسين بحثا فى الموارد المائية. تفكيره مرتب وحجته قوية ويمتلك قدرات خاصة فى الكتابة المحكمة التى لا تترك ثغرة لمن يراجع بعده.

ابتسمت الاقدار للدكتور عبد الهادى مرتين وعبست فى وجهه مرة. الابتسامة الاولى جاءت حينما اختاره المهندس عصام راضى ليكون رئيسا لهيئة الصرف. ليتوج تاريخا اكاديميا قضاه باحثا واستاذا مساعدا واستاذا ثم مديرا لمعهد المياه بالمركز القومى لبحوث المياه. فقد كان موضع ثقة المهندس عصام ويعرف قدراته جيدا. واختاره رغم تحفظ قيادات الوزارة فى ذلك الوقت على الاستعانة ب(دكتورباحث) فى الانشطة التنفيذية لوزارة الرى.

بعد اسابيع قليلة من توليه رئاسة هيئة الصرف وقعت كارثة كبيرة بمنطقة زاوية عبد القادر بمحافظة البحيرة. حيث ارتفعت مناسيب المياه بالمصرف هناك بشكل خطير ولم تحدث استجابة سريعة من المسؤولين للتعامل مع تلك الازمة. كانت النتيجة غرق عدد من القرى ووقوع خسائر فادحة.

قامت الاجهزة الرقابية بتقديم تقاريرها التى على اثرها تم تحويل عدد من المسؤولين للمحكمة. تم الحكم على البعض بالسجن وآخرين بالنقل والتخفيض من الوظيفة. ابتسم القدر للمرة الثانية للدكتور عبد الهادى وشفعت له حداثة شغله للمنصب، بالاضافة الى شهادة المهندس عصام راضى الذى وقف بجانبه واكد على كفاءته، فلم يتعرض لمساءلة نتيجة تلك الحادث الذى كان يمكن ان يعصف بمستقبله الوظيفى. بل اثار اهتمام الرئيس مبارك حينما قام بزيارة المنطقة المنكوبة وقدم امامه عرضا للمشكلة وكيفية التعامل معها. ثم بعدها بشهور قليلة وقع تعديل وزارى ليتم تكليف الدكتور عبد الهادى راضى وزيرا للرى. وهنا اتت الابتسامة الثالثة له.

«الدكتور عبد الهادى» يمتلك وجها مريحا وعينين نافذتين. شخصية شديدة التواضع وتتمتع بحس انسانى رفيع. وظل طوال فترته الوزارية القصيرة يولى اهتماما واسعا بشباب المهندسين. فاتاح فرص التدريب الخارجى لهم مع توسيع دائرة المشاركة لتشمل مهندسى الاقاليم ولا تقتصر على مجموعة ضيقة من العاملين بالمبنى الرئيسى.

كما امتلك الجرأة لتخطى قواعد الاقدمية وقام بتكليف شباب واعد بوظائف قيادية فى الوزارة متخطيا قواعد الترقية القديم التى كانت تعتمد على الاقدمية. وكانت لديه رؤية واسعة باهمية الوعى المائى فاصدر قرار انشاء اول وحدة تختص بانشطة التوعية المائية فى تاريخ الوزارة.

فى كل جولاته المرورية كان حريصا على استخدام الاستراحات الحكومية لاقامته. وفى احدى زياراته لمدينة الاقصر كانت الاستراحة تحت الصيانة والتجهيز ودعاه محافظ قنا للاقامة فى احد فنادق المدينة لكنه اعتذر له واصر على الاقامة فى استراحة الرى حتى ولو لم تكن جاهزة، توفيرا للنفقات..

بعد تكليفه بالوزارة بسنة واحدة تعرض عبد الهادى راضى لمحنة مرض قاس استلزمت اجراء جراحة. وطبقا للاعراف السائدة وقتها فقد عرض عليه المسؤولون السفر للخارج لاجراءها على نفقة الدولة، لكنه فضل اجراءها بمصر تخفيفا للعبء على الخزانة العامة. استمرت رحلة علاج وجلسات لمقاومة المرض الشرس. احتاج لاجراء عملية ثانية بعد ان اخفقت الاولى فى استئصال الورم.

بعد العملية الثانية لم يتحسن الحال كثيرا وازدادات فترات اقامته بالمستشفى. وبدا واضحا للجميع ان الاقدار قد عبست له واصبحت النهاية المحتومة قريبة. لم يستسلم الدكتور عبد الهادى لآلآم المرض بل قاومه بكل شجاعة واستمر يعمل حتى اللحظات الاخيرة، واصبحت البوستة اليومية تأتيه من مبنى الوزارة بامبابة ليوقعها وهو على سريره بالمستشفى بمدينة نصر. وقتها كانت تجرى وضع اللمسات الاخيرة لافتتاح انفاق ترعة السلام. وهى الانفاق التى كانت ستنقل المياه من ترعة السلام غرب قناة السويس الى شرقها. وهى عمل هائل استغرق سنوات لتنفيذه، ثم له معنى عظيم لمرور اول نقطة مياه الى ارض سيناء بعد تحريرها.

اصر عبد الهادى على مراجعة الرسومات والاوراق للانتهاء منها فى الموعد المقرر. وعند افتتاح الانفاق التى حضرها الرئيس مبارك. لاحظ الجميع تدهور حالة الوزير الذى فقد كثيرا من وزنه وتساقط شعره الابيض الذى كان يميزه، لكنه ظل محتفظا بابتسامته الهادئة ووقاره المهيب، وبدا كما لو كان احد ابطال الاساطير اليونانية التىى تسابق الزمن وتتحدى المرض. ويحتفظ ارشيف التليفزيون المصرى بلقطات حية للرجل بجوار الرئيس مبارك وهو يقف سعيدا بالانجاز العظيم الذى شارك فيه بافتتاح انفاق ترعة السلام.وعاد عبد الهادى من موقع الاحتفال مباشرة الى حجرته بالمستشفى بعد ان استنزفته مجهودات الافتتاح، ليمضى بضعة اسابيع بها ويستمر فى متابعة انشطة الوزارة كالمعتاد حتى وافته المنية فى نوفمبر 1996.

جاءت وفاة عبد الهادى لتشكل صدمة للعاملين بالوزارة ودائرة واسعة من الرأى العام الذين رأوا فيه نموذجا وطنيا يعمل من اجل مصرويتحامل على نفسه بالرغم من ظروفه الصحية المتدهورة. فجاءت جنازته مهيبة حاشدة فى شارع النصر امام المنصة، وشارك فيها رئيس الجمهورية وكبارقيادات الدولة. ثم ظل منصبه شاغرا لاكثر من ستة شهور فى سابقة لم تحدث من قبل ولا من بعد. وكأن الكرسى كان فى فترة حداد على صاحبه.
وفقدنا انسانا رائعا مازلت سيرته حية بيننا

اجري توداي على اخبار جوجل

 

زر الذهاب إلى الأعلى